مدونة المعرفة والتأصيل

مدونة المعرفة والتأصيل

السبت، 24 سبتمبر 2016

الكتابة بين إجحاف اللّفظ وإهمال المعنى

حظِيت الكتابة قديماً وحديثا باكتراث قِطَبة اللّغة والبلاغة ، وتمحورت فيها كثيرٌ من أبحاثهم ودراساتهم النّظريّة ، وإمضاءاتهم التّأليفيّة ، وومضاتهم التعليميّة . فصّلوا في مضامين قواعدها وضوابطها ، ووضعوا معايير حسنها وجمالها ، مُحكِّمين أُسُسها ومبادئَها ومتحاكمين إليها .
سبروا معسول أقلام الكُتّاب ، وفرزوا بين الصحيح والسّقيم ، وأناروا أوجه الجمال والعذوبة في المكتوب وفق معاييرهم العلميّة أو الذّوقيّة ، فقدّموا أرباب الجمال الكتابي والرّونق التأليفي على أصحاب الأقلام الفارغة والكتابات القاصرة .
وقد تعدّد النّظر التّقييمي على الكتابة ، وتجاذب أطرافه خِدّان فنون اللغة ، وكانت قضيّة ( اللفظ والمعنى ) من أنير القضايا الّتي حظيت بعناية جمهرة من اللغويّين والبلاغيّين ، وأثارت أقلام مُنظّري اللغة ، ومتذوّقي البلاغة ، وفيها سُطّر عن العتابي قوله :” الألفاظ أجساد، والمعانى أرواح ؛ وإنما تراها بعيون القلوب ، فإذا قدّمت منها مؤخّرا ، أو أخّرت منها مقدّما أفسدت الصورة وغيّرت المعنى ؛ كما لو حوّل رأس إلى موضع يد ، أو يد إلى موضع رجل ، لتحوّلت الخلقة ، وتغيّرت الحلية . “[1] .
والموافقة بين اللفظ المكتوب والمعنى المقصود حسن رصافةٍ للكلام ، يجذب إليه الأذواق والعقول ، ويستدرّ من عُشّاق القراءة الوقوفَ مُطوّلاً عليه ، وتقليبَ صفحاته ، وتكرارَ نظرات التعجب الإيجابي إليه ، وتستحثّ خلايا الفكر أثناء قراءته لإبداع صنوه ، والاحتذاء بأثره .
ولئلاّ أنكب عن زمام صريمة المقال إلى ما أربت الكتابة عنه المئات – وكفى بالإشارة إلى أهميّة ( اللفظ والمعنى ) في اللغة إثارة – أرجع وأقول :
لم يكن يجاهر بالكتابة – العلميّة أو الأدبيّة أو غيرهما – في العهود السّابقة – عهود ما قبل الثّورة التِّقنيّة الحديثة – إلّا الإختصاصيّون والمتضلّعون فيما يكتبون عنه ، الّذين يراعون المكتوب ويحترمون القارئ ، فسادت عليهم سُحُب جمال الإبداع ، واستُعذبت أسطر الكتابات ، وندرت هفوات المقالات والمؤلّفات ، ممّا صيّرها مُبتغى أفئدة النّاس ، ومُلتقى مُقل الأكياس .
على خُطاهم في الكتابة دبّ المؤلّفون والكتّاب ، ومن سطور مكتوبهم قعّد المنظّرون أسس الكتابة والتدبيج ، فكانت حقّاً بهجة التّراث العربي .
الإجادة في الكتابة لم يكن مِحكّ الأدباء والبلاغيّين وأهل اللغة فحسبُ ؛ بل حَفَل بها أغلب خِلّان الفنون ، فراعوا التّناسق والتّرتيب في المكتوب ، وأَولَوا اهتماما بأُسس اللغة ومبادئها ، واجتهدوا في مَنح المُدوَّن نَكهة أدبيّة بلاغيّة ، يتمتّع بقراءته القارئ ويستنشق منه علماً وأدباً في نفس الوقت ، منهم من يقتصر على إبداء المعلومة بهيكلها اللغوي السّليم ، وتحسين ترتيبها وترصيفها ، والرّعاية على التّطابق بين اللفظ المُسَجَّل والمعنى المراد ، ومنهم من شذاها بعبير اللغة والأدب ، كالغراميّة أو ( غرامي صحيح ) في مصطلح الحديث ، ومنظومة الكلوذاني في أصول الدين وغيرهما .
 وعلى المنوال عُمّر سوق الكتابة ، وازدهرت أساليبُ الدّيباجة ، وأصبح النّاس فيها بين مُقدِم واثق بنفسه ، موثوق لدى النّاس ، وبين مُحجم عنها ، لا يعرض لنفسه مسامّ الكلم ، ومجامع النّقد ، ومن عرض مكتوبه فقد أبدى أسرار معرفته .
وبعد النّهضة التقنيّة الحديثة ، وتسرُّب النّاس إلى عصر ” حُريّة النّشر ” ، واستحداث خدمات البثّ المُتاحة ، وتوسّع دوائر النّشر المعرفي والثقافي ، وإطلاق عَنان الإعلام الّذي أصبح في مُتناول يد الجميع تلقّياً وإذاعةً ؛ تأثّر فنّ الكتابة به – عموماً – سلباً وإيجاباً .
فمع توفّر بيئة تقرأ للكاتب مهما كانت مهاراته العلميّة ، وقُدراته المعرفيّة ، لم تعد هناك قيودٌ عن إفشاء المكنون في الصّدور ، وأفلت الرّعشة عن نشره ، فأُخذ القلم بحقّه طورا وبدونه أخرى .
والمُحاولة وإن كانت بحدّ ذاتها محمودة إلّا أنّها لمّا تكون على حساب العلوم ، وتُشاع في حيّزٍ غير مناسبٍ لها ؛ تصبح مثلوبة ، فلكلّ فرسٍ ميدان ، ولكلّ مقالة مقام ، والمجيدون لرونقة التّرصيف كُثر ، ويُعدّون قسيماً لفرعين أهملت كلٌّ منهما أحد جناحي الكتابة ( اللفظ ، المعنى ) :
فثُلّة منهم يُحسنون الانتقاء من القواميس ، واستيراد الكلمات العويصة ، والجمل الرّكيكة ، والأمثال المستصعبة على الإدراك ، يعتنون بقالب الكلام أكثر من قلبه ، ويطغى الاهتمام بظاهر المقال لديهم على الاكتراث بباطنه ، فتضيع فكرة المقال بين أسطر شبيه ” المقامة !!” المكتوبة ، ويصعب على القارئ المستفيد إدراك المبنى قبل المعنى ، ومعلومٌ أنّ الفِكرَ إذا تشتّت صعُب عليه الإدراك والاستيعاب .
مثل هذا الصّنيع ليس مذموماً على الإطلاق ، بل يحسن في جنس الكتابات الأدبيّة أو اللّغويّة ، فغالباً ما يكون مقصوداً فيها ، ليغور المطّلع في أعماق اللغة ، وقَرارِ الأدب والبلاغة ، وليُروّض لسانه ، ويُرْبِي حصيلته اللغويّة ، ولكن الأمر لا يُستحسن في الكتابة المقصود منها إيصال فكرةٍ عن أمرٍ ما ، وذلك لصيرورته عتبةً صعبة الاجتياز أمامَ المدخل إلى المقال أو الكتابة .
أمّا الثلّة الأخرى فبعكس السّابقة ، غضوا الطرف عن سَبكِ المكتوب ، وترتيبه ، ومراعاة قواعده وأسسه اللّغويّة ، وودّعتهم سلامة التّعبير ، ونَقَاهة التوضيح ، فالكلمات مكسّرة ، والجمل مبعثرة ، والصياغة هشّة ، والقواعد مُقَلّصة غير مُطبّقة .
إحاطة مقصودهم ربما تُدرك بصعوبة وربما تعسُر على الفهم ، فسهولة مفرداتهم تقضي فهم شيء من مُرادهم ، وضآلة صياغتهم وتصريفهم تسبب عدم إدراك قصدهم .
والفيصل بين الفيلقين أنّ المحصول المعرفي واللغوي لدى الفريق الأوّل أكثر من الفريق الثاني في الغالب ، فالأوّلون يظهرون عضلاتهم العلميّة والآخرون يروّجون لبضاعتهم المزجاة .
وبما أنّ مِخلاة الكاتب كشكول القارئ فينبغي التوسّط في تسبيك الألفاظ ، والاهتمامُ باتساقها مع الفهم ، ومُراعاة وضوح الفكرة ، وسهولة إدراك القارئ عليها ، وإنّما يقوم الكلام ” بلفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ” [2]
وينبغي الاحتراز – قدرَ الوُسع – عن العُجمة اللغويّة الّتي تُرافق أقلام الكُتّاب غير العرب ، ولها مظاهرها وأسبابها وحُلولها – وربّما سنكتب عنها بإذن المولى في مقالاتنا القادمة – ، وهي إحدى بواعث التقصير عن الاكتراث بعلاقة اللّفظ بالمعنى ، وتُذهب أحياناً السلاسةَ عن صياغة الكلام ، والربطِ بين الجُمل ، وتدرّجِ الوصول إلى الأفكار الرّئيسيّة ، وحسنِ التمهيد والاختتام .
وصناعة الكتابة وصيانتها فنٌّ أُلّف عنها العديد من الكتب والرّسائل ، ويحسُن لرامي الكتابة الوقوف عليها ، ومطالعتها .[3]
  • الهوامش
[1] كتاب الصّناعتين – الكتابة والشّعر – لأبي هلال العسكري صـ169 .
[2] ما بين القوسين لأبي سليمان الخطابي في بيان إعجاز القُرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ27 .
[3] منها : كتاب الصناعتين الكتابة والشعر لأبي الهلال العسكري ، وصيانة الكتاب للغامدي ، وفي كتب ” أدب الكاتب ” فصول مهمة في الباب كأدب الكاتب لابن قتيبة ، وشرحه للجواليقي ، والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير ، وللبلاغيّين والأدباء في قضيّة ” اللفظ والمعنى ” خصوصاً بحوث كثيرة منشورة من أحسنها كتاب ” قضيّة اللّفظ والمعنى ونظريّة الشّعر عند العرب ” للودرني ، مطبوع بمجلّدين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق