يتناول علم التاريخ البشري جزئين مهمين لا ينفصلان عن بعض ، وهما : 1- المعمور 2- والعامر ، فالأول هو المتعلق بجغرافية الأرض ، وتطور البلدان ، وطبيعة الأماكن البرية والبحرية ، ووصف المدن والقرى ، ومظانه كتب الجغرافيا ، ومعاجم البلدان ، وتاريخ المدن ، ونحوها .
والثاني يرتبط بحركة البشر في إعمار الأرض ، وسياسة البشر ، وتطوير العلوم والمعارف ، وسير الأعلام ، ومظانه كتب التورايخ والتراجم ، وأبجديات العلوم ، وما ضارعها .
وقد سبقت الإرادة الإلهية بتعلق قلوب العامرين بالجزء المعهود له من المعمور ، يكد في إصلاحها ، ويسعى في مصالحها ، ويفضل المعيشة فيها على غيرها ، ويتعلق قلبه بها كتعلق قلب الحبيب بذات محبوبه ، ولولا ذلك لما عمرت أكثر أجزاء المعمورة ، ولاجتمع الناس في الأحسن وخلوا الحسن وما دونه ، ولكن حكمة الله قضت فطر الحب الطبيعي للبلدان في قلوب العباد ، لتتكامل المعيشة الدنيوية .
وهذا الحب العميق أشار إليه القرآن في قوله تعالى : ( ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلّا قليل منهم ) [1] ” فقرن الضن منهم بالأوطان إلى الضن منهم بالأبدان “[2]
وفي هذا يقول ابن فقيه : ” ولولا أن الله تعالى وتقدس جبل هذا العالم على حب الأوطان ورضى كل ضرب منهم ببلده وحبب إليهم تربتهم وأرضهم لما فضل قائل هذ الشعر [3] الكَرَج مع ضيقها وقذرها وقلة خيرها وشدة بردها على همذان ، ولكن الله قد خالف بين طبائع الناس ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم لما اختاروا من الاسماء إلا أحسنها ومن البلاد إلا أغذاها ومن الأمصار إلا أوسطها … وقد قيل في الأمثال : عمر الله البلدان بحب الأوطان ” [4].
وبما أن قطرة الإنسان معجونة بحب الوطن – كما قال أبقراط [5] – ؛ فإن ذلك كثيرا ما يؤدي إلى تفضيلها عن غيرها ، وركوب الصعب والذلول لعرض تميزها ، ووضع الأحاديث والأخبار الأسطورية لها ، ومن له حظ في مطالعة كتب البلدان وخاصة ما يكتبه أبناء البلاد عن مهدهم تبين له ذلك .
ولهذا استحسنت ذكر هذه القاعدة المتضمنة على أصلين ذكرهما العلماء في مقدمة هذه الحلقات ، أحدهما في علاقة الفضل بالبلدان ، والثاني في توخي الحذر عند التعامل مع كتب البلدان والتواريخ :
الأوّل : بعد ظهور التعصبات الدينية والسياسية والقومية أصبح الكثير من المتعصبين يضعون أحاديث يرفعون فيها قدر الموضوع له ، فاشتهرت الموضوعات في الدول ، والفرق والمذاهب ، والقبائل ، والأشخاص ، وأخذت البلدان حظها منها ، تارة في فضل مقامها وأخرى في فضل من زارها أو توفي فيها ونحو ذلك ، ما أدى إلى اعتقاد الفضل في أماكن لم يرد فيها فضل .
والأصل الصحيح في هذا ما ذكره ابن تيمية الحفيد – رحمه الله – من أن ” الإقامة في كل موضع يكون الإنسان فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك هذا هو الأصل الجامع فإن أكرم الخلف عند الله أتقاهم … “[6]
وعليه فلو تصورنا شخصا تكون إقامته في إحدى مراعي الصومال أجمع لهمته في العبادة والطاعة من إقامته في مكة أو المدينة ؛ فالأحسن والأفضل له مكوثه في مراعيه .
الثاني : ما نصه الشوكاني -رحمه الله- في الفوائد المجموعة [7] حيث قال ” وقد توسع المؤرخون في ذكر الأحاديث الباطلة في فضائل البلدان، ولا سيما بلدانهم ، فإنهم يتساهلون في ذلك غاية التساهل، ويذكرون الموضوع، ولا ينبهون عليه، كما فعل الديبع في تاريخه الذي سماه: قرة العيون بأخبار اليمن الميمون وتاريخه الآخر الذي سماه: بغية المستفيد بأخبار مدينة زبيد، مع كونه من أهل الحديث ، وممن لا يخفي عليه بطلان ذلك، فليحذر المتدين من اعتقاد شيء منها أو روايته، فإن الكذب في هذا قد كثر، وجاوز الحد. وسببه: ما جبلت عليه القلوب من حب الأوطان والشغف بالمنشأ “
ولا يوجد – حسب علمي – مثل هذه الموضوعات بخصوص الصومال ، إلا أن هناك موضوعات في الحبشة وفضائلهم ، وعلى القول بأن اسم الحبشة كان يعم سكان الصومال عند الإطلاق – كما سيأتينا في الحكاية عن بربرا – فإن لهم نصيبا في مثل تلك الموضوعات ، ومنها حديث (إن الحبشة نجد أسخياء، وإن فيهم لمينا، فاتخذوهم ، وامتهنوهم ، فإنهم أقوى شيء ) [8] .
والمراد أن حكاية أخبار البلدان بحاجة إلى قسط من العدل ، فلا يرفع من قدرها ولا يحط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق