رحمك
الله يا عملاق الأدب وعظيمه، كتبت فأجدت، وأقرضت سواك ما لا يستطيعون أن يوفوه لك،
من فرط كرمك، ووفرة حكمتك، ودهاء عقلك، وحرفة قلمك، وطوع قرطاسك، وضعت القلم على
الكتاب لتتكلم عن الكتاب، واستفرغت خط الدواة لإبقاء فضل المكتوب والكتاب به.
كثيرة
هي تلك الكتب التي تتكلم عن الكتاب – مفردة أو في ثنايا كتاب - ، ولكن قل أن تجد
منها ما يضارع رسالة إمام الأدب وشيخه العلامة الجاحظ أبي عثمان عمرو بن بحر، في
إيجاز الألفاظ مع استيفاء المعاني، وفي الرد الحكيم مع التقرير اللطيف، وفي جزالة
الكلم والألفاظ مع وضوح المراد منها، وفي الأدب المذهب والبلاغة المرصعة بها ، وفي
التحميس والتشحيذ ، ووقود الأذهان وإيقاظ الألباب النائمة بل والمتيقظة .
وكما
قال أديبنا ولا تعليق على كلامه فإن الكتاب : " نعم الذخير والعقدة، ونعم
الجليس والعمدة"، " مؤنس لا ينام إلا بنومك ، ولا ينطق إلا بما تهوى
"، " يجمع التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة "، وهو" مع خفة
ثقله ، وصغر حجمه، صامت ما أسكتّه ، وبليغ ما استنطقته " ، " الجليس
الذي لا يغريك ، والصديق الذي لا يطريك " " إن نظرت إليه أطال إمتاعك،
وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك"،
" يطيعك بالليل طاعته لك بالنهار ، وبالسفر طاعته لك بالحضر"، "
يشغلك عن شخف البيت ، وعن اعتياد الراحة وعن اللعب ".
ما
أجمل القول ، وما أصدق الوصف ، وما أحسن اللهجة.
اجتهد
– أخي القارئ- في طلبة هذه الرسالة، ومتع مقلتيك بها، وكرّر نظرك إليها، واستعن
بها كلما خارت قواك العاطفية، وضعفت همّتك، تجدها معك صادقة، ولنصحك جاهدة، لا
تخاف عنها طولا ، ولا ركاكة ، ولا إيجازا مخلا ، ولا قلة فائدة ، كيف وكاتبها
معروف بالتأليف الممتع، والجمع المقنع، والبيان ..... ، واللغة الرفيعة ، والكتابة
البديعة ، إذا ألف فهو الإمام ومن بعده المؤتمون ، وإذا تكلم بلسان قلمه فهو
الخطيب وغيره المستمعون .
أما
عن الكتاب والقراءة فليس لي بعد الجاحظ تعليق عليها إلا أني أتذكر أني قلت لفضلاء
استنصحوني في هذا الباب : لو افترضنا أن شخصين اشتغل أحدهما في الحلقات، والأخذ من
أفواه الرجال سائر عمره ، وجميع دهره ، ولم يلتفت إلى القراءة والمطالعة، والغوص
في بطون الكتب، وأصبح نكرة في المكتبات ، واستنكرته عيون الصفحات، واشتغل الآخر في
المطالعة والقراءة والعيش مع الكتاب ، ولم يأبه لدرر أفواه العلماء ، ولم ينتظم في
الحلقات العلمية، وابتعد عن الأكابر إذا جلسوا في الزوايا ، فضلا عن الأصاغر
والأقران ، فلا شك أن كلا منهما ينقصه جانب عظيم من جوانب العلم ، وأنهما يعومان
في أمواج ليس لها بر ، ويعرجان برجل واحدة في سبيل العلم ، إلا أن الأخير الذي عرف
طريقه إلى الكتاب والمكتبات ، وجوّد استعماله لها ، وأحسن تعامله مع الكتاب أكثر
نفعا وانتفاعا من الآخر .
وقد
وقفت على ما يؤيد كلامي في هذه الرسالة حيث قال الجاحظ :" وعرفت به [ أي
الكتاب ] في شهر ، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر " .
فدونك
يا طالب العلم الكتاب، فلا تكتف بقراءته بل أعطه ( حق القراءة ) ، وعش فيه ولا تعش معه ، ولا تتخذه هواية بل اتخذه حياة .
وإن
حدثتك نفسك بما يوهن علاقتك مع الكتاب فعاود قراءة لؤلؤة الجاحظ هذه، وهي رسالة
أعدها لأمثالك تعريفا لك بفضل الكتاب، وشحذا لذهنك بالكلم العجاب .
وقد
نشرت رسالة الجاحظ مفردة ولأول مرة – حسب العلم – في مجلة المجمع العلمي العراقي،
عام 1380 ه ، المجلد الثامن – من صـ 335 إلى صـ 342 ، بتحقيق الفاضل : إبراهيم
السامرائي ، وقد أورد الجاحظ نفسه في (الحيوان) أشياء منها ، لا كلها .
كلمة
ختامية :
لا
تمنعنا الجسارة العقلية لدى الجاحظ ، واعتزاله – وقد وصف بخطيب المعتزلة([1])
- ، والمنسوب إليه مما خولف فيه – صحت أو لم تصح – وبدعية بعض مقالاته؛ أن نقر له
فضله، وتقدّمه على الكثير في مجاله، وجودة تأليفه، وصدارة مقامه بين الأدباء
والكتاب ، وقد دل على هذا عدم استغناء أكثر الفرق عن كتبه ومصنفاته، واستشهادهم
بمقولاته ، وفرحهم بكثير من مصنّفاته.
فرحمه
الله وعفا عنه وعن جميع علماء المسلمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق