مدونة المعرفة والتأصيل

مدونة المعرفة والتأصيل

السبت، 24 سبتمبر 2016

أثر الاستدعاء السّلبي لوقت السّاعة وعلاماتها في ضعف الأمّة [2]

إن المتتبّع لتاريخ الأمّة يقف على أخبار محزنة متشابهة تعزو للأمّة في زمن ضعفها ، تتعلّق بمناحي مختلفة من الحياة ، منها الاعتقادات الخاطئة ، وفي صميمها هذه الظّاهرة الّتي نحن بصدد الحديث عنها ، وسآخذ هنا مثالين من التّاريخ والواقع :
المثال الأوّل : ظهر هذا الاعتقاد في المسلمين بعد سقوط بغداد على يد التتار الهمجيّين ، وسيطر على كثير منهم حتى ما عادوا يتكلمون إلّا فيه ، وانتشر بين النّاس بسرعة عجيبة ، والناس من عادتها أنها تحب دائماً أن تستمع إلى الغريب .
لقد ظهر اعتقاد أن خروج التتار وهزيمة المسلمين وسقوط بغداد ما هي إلا علامات للساعة ، وأن المهدي سيخرج قريبا جدّاً ليقود جيوش المسلمين للانتصار على التتار .. !! [1]
المثال الثاني : مُقابلة بُثّت في قناة الأقصى [2] قبل سبع سنوات تقريباً ، يتحدّث فيه شخص عليه سيما علمٍ – مثله يثق فيه ناسٌ كثر – يدّعي ويجزم ظهور الشاب الّذي سيقتله الدجال ، مُعتمداً على أخبارٍ سماعيّة .
وقد كثر في الآونة الأخيرة في المواقع الثّقافيّة ، ومواقع التواصل الاجتماعي – بأيّ غرض كانت – ادّعاء ظهور علامة من علامات السّاعة الكبرى ، وربّما ينسبونه إلى بعض المشاهير ليثق النّاس في الخبر ، ولا شكّ أنّ هذا يؤثّر سلباً على القارئين والمتابعين ، كما أشرنا إليه سابقاً .
وتجد الأمر شائعاً في أوساط المجتمع – المثقف منه وغيره – ، فتراه مُتبادراً إلى منطقهم عند الحديث عن مُصاب الأمّة الإسلاميّة ، وكأنّنا قد رضينا عن وقوع الهلاك الدّنيوي بدل العيش في مثل هذا الزّمان الّذي ساد الضّعف على الأمّة ، وبُحنا عن عدم مقدرة إقامة الأمور على مجراها السّابق .
وهذا متعارض مع المبادئ الّتي تدعو إليه الشّريعة في الحياة ، وهو تنازل عن الاستخلاف الربّاني في الأرض ، وانهزام أمام المناوئ اللدود ، وبصمة عار على جبين أهل الزّمان من الأمّة .
والأمة لا تصير أمة إلّا بقلبها وقالبها ، فإذا تعذّر أحدهما امتنع الآخر ، والاعتقاد الخاطئ في علامات السّاعة ، والتواكل عن الإقدام في التغيير لأجل الاتكال عليها ؛ يُضعف الأمّة قلباً لا قالباً ، ولا يمكن لها مع هذا الاعتقاد نجاح وتقدّم.
أثر دعوات تحديد وقت السّاعة في ضعف الأمّة :
ظهرت الادّعاءات في معرفة وقت قيام السّاعة منذ أمدٍ بعيد ، وتوارثتها الأجيال بشكل فُراديّ – مع ضعفٍ في التّركة لعدم نهوض الحجة مع الدّليل القاطع في نفي علم وقتها – .
 ووُضعت لتقوية الادّعاءات أحاديث وآثار ، ودُعّمت بالظن والحسبان ، ومأثورات غير صريحة التّبيان .
ولعلّ من أقدم من حدّد وقتها من العلماء الطّبري – رحمه الله – [3] ، فقد استظهر أنّ بقاء الدّنيا منذ ظهور ملّة محمّد صلى الله عليه وسلّم خمسمائة سنة .
ومنهم السّهيلي [4] ، وألّف السّيوطي في الباب ” الكشف عن مجاوزة هذه الأمّة الألف ” .
ونهج نهجهم من المُعاصرين جمع من أبرز من كتب فيه : أمين جمال الدّين في كتابه ” عمر أمة الإسلام . [5]
ولست هنا لعرض الآراء والحجج والتّرجيح بينها – وقد فعله قوم يُرجع إلى كتاباتهم – ، وإنّما المُراد أنّ هذه الظّاهرة كسابقتها موجودة – سواء صدرت عن العُلماء ، أو الفلكيين والمنجّمين ، أو الكهّان والمشعوذين – .
وهذه الظّاهرة وإن كان لها تأثيرها السّلبي إلّا أنّها أقلّ تأثيراً من سابقتها وذلك يعود إلى :
  • جهل أكثر النّاس بمثل هذه الادّعاءات ، وخلوّ أذهانهم منها ، والمجهول كالمعدوم في التأثر به وعدمه .
  • عدم مقاومة حجج المُحدّدين لقواطع الأدلّة الدّالّة على استئثار الله بعلمها ( إنما علمها عند ربي )[6] و ( ما المسئول عنها بأعلم من السّائل )[7] .
  • قلّة المتبنّين لهذه الفكرة – قديماً وحديثاً .
  • تلاشي بعض الادّعاءات بمجاوزة الوقت المُحدَّد لقيام السّاعة في الادّعاء ، ما سحَبَ الثّقة عما ضارعها من الآراء .
وأمّا ناحية التأثير السّلبي لهذه الأفكار في الأمّة فواضحة ، فالمسجون المحكوم عليه بالإعدام في قبضة الدّولة أو عدوّه ، يخلع رداء الأمل ، والفكر في بناء المستقبل ، ويجمع كلّ همّه على طريقةٍ للفكاك عن القيد ، والرّجوع إلى الحياة ، ويعتبر نفسه ميّتا وهو حيّ ومفقوداً وهو موجود ، ويقطع النّاس الأمل فيه ، فلا يتعاملون معه بالمعاملات المستقبليّة ، كعقد النّكاح ، والدّين ، وقبول ضمانه ، ونحو ذلك .
وحال الأمّة الّتي أُعلمت بوقت نهايتها كحال هذا المسجون ، لذا كان من حِكم إخفاء وقت السّاعة أن لا ينقطع الأمل في الحياة الّذي يسبّب الانهيار الكامل للفرد والمجتمع ، ويُضعف القيام بمسؤوليّات الخلافة الربّانيّة الكونيّة في الأرض .
وللمثال ، فقد حدّد السّيوطي – رحمه الله – عمر أمّة محمّد – الّتي بنهايتها ينتهي الكون – بأقلّ من (1500) سنة قمريّة[8] ، وإذا استجبنا لهذا القول فإنّنا الآن – في سنة 1437 ه – على شفا قيام السّاعة ، فلم يبق منها إلّا (63) سنة قمريّة ، أو أقلّ .
وعليه فإنّ خروج المهدي ونزول عيسى في غضون هذه السّنوات أو بعدها مباشرة ، وكذلك فتنة الدجال وخروج يأجوج ومأجوج .
 وهذا يدعو إلى القعود عن العمل والنّهضة ، وعدم التخطيط لمائة سنة أخرى ، ومهما كان من فساد موجود اليوم فسيعقبه قريباً صلاح زمن عيسى – عليه السّلام – والمهدي ، أو صلاح فسيعقبه قريباً فساد الدجال ويأجوج ومأجوج ، ” ففيم العمل إذاً ؟ ” .
المُعين على سدّ هذه الظواهر ورفعها :
وفي ختام المطاف أُقدّم بعض التّدابير الواقية من الوقوع في شرك مثل هذه الظّواهر :
  • تحقيق فقه النّصوص الشرعيّة المأثورة ، والعلم بالواقع الّذي تؤدّي إليه الآراء والاجتهادات النّابعة عن الظن والحُسبان .
  • تقديم الموضوعات المتعلّقة بأشراط السّاعة بصورة إيجابيّة وذلك بتقديمها بشكل يبعث في النّفس الرّجاء مع الخوف ، والتأكيد على عدم الاتكال برؤية هذه العلامات ، وعدم الاشتغال بها أكثر من اللازم ، كتتبّعها ، وإخراج الأخبار المخبيّة في الزّوايا المتعلّقة بها .
  • عدم استعجال تطبيق المأثورات في أشراط السّاعة على الواقع ، لاسيّما الأمارات الكبرى منها ، وإحالة ذلك إلى أهل العلم والذّكر والاجتهاد .
  • غض النّظر عن الإعلانات الغير موثوقة في مثل هذا الباب ، والّتي تتوفّر في الشبكة العنكبوتيّة .
  • الإيمان بأنّ هذه العلامات ليست إلّا إيذاناً لقرب قيام السّاعة ، وأنّها لا أثر لها في الجملة على الحياة الدّنيا ، ما لم تظهر العلامات الكُبرى حقيقة .
  • الاعتبار بالماضيين ممّن اغترّ بهذه الظّواهر ، وقعد عن النّهوض ، واسترجاع الحقوق ، ثمّ ما لبث ظنّهم حتى خاب بأقرب ممّا كانوا يتوقّعونه .
  • العلم بأنّ مهمّة إيجادنا في الكون هو عبادة الله المؤدّية إلى تهيئة مكان العبادة – الأرض – لتكون صالحة لكمال العبادة ، وهذا يحصل بالقيام على أمور الأرض كلّها من تعمير ، وتسييس ، وتدبير ، وإصلاحٍ .
……………………………………………………
  • الهوامش
[1] أورده السرجاني في قصة التتار صـ 168 ، ولم أطلعها بعد في المراجع التاريخيّة .
[2] يُقال : أن القناة اعتذرت عن بث المقابلة ، وهو موجود في اليوتيوب بعنوان ” ظهور الشاب الّذي سيقتله الدجال “
[3] تاريخ الأمم والملوك 1/ 17 ط: المعارف ومقدمة ابن خلدون 1/547 .
[4] الرّوض الأنف 4/419 ت: الوكيل ، ونقض كلامهما ابن خلدون في المرجع السّابق ، والصنعاني في رسالة شريفة 30 وغيرهما .
[5] ويوجد في اليوتيوب مقطع متداول لأستاذ سوداني يدّعي علم وقت قيام السّاعة .
[6] الأعراف 187
[7] البخاري ومسلم .
[8] الكشف عن مجاوزة هذه الأمّة الألف للسيوطي ( آخر عهدي به مخطوطاً )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق