مدونة المعرفة والتأصيل

مدونة المعرفة والتأصيل

السبت، 24 سبتمبر 2016

ماذا سيكتب عنّا التاريخ ؟‏

زُهاء قرنٍ كامل كانت الأمّة الإسلاميّة مزكومةً من رُغام سقوط خلافتهم الّتي كانت واسطة عقد بينهم ، ومفخرةً لهم مع هُزالها في أواخر أيّامها .
 كانت على مدى هذا القرن تتمرّغ في صَعيد التخلّف ، وترشّ لُعابها على ثوب المذلّة ، وتتلوّى من وجع الهزيمة ، يتحيّنون الفرص ليتساءلوا بينهم : كيف ، ولم ، وهل ؟ ، من دون أن يُحرّكوا ساكنا .
ذهب القرنُ ولم يُستفد منه إلّا إلقاء اللائمات ، والجهر بالعداوات ، وتوسيع دائرة الخلافات ، وتضييق الحُدود والرّحلات ، والتفرّج على تقُدّم ذوي النّكبات ، والاستذكار بالمكرمات السّابقات ، وتمنّي إزاحة الأزمات .
أصبحت نقطة شمل الكلمة صعبة المنال ، وتمكّن العدوّ من الأمّة أشدّ من الصليبيّين والتّتار ، وحُلّيت أعظم قاعدة في العصر بالذّهب ورصّعت بالفضّة : ( فرّق تسُد ) ، ومع عدم اختراعها في هذا العصر إلّا أنّه أصبح العصر الذّهبي لها ، وكانت لصالح الكفّار .
أمست عزّة النّفس من خبر (كان) وأبئِس به خبراً في مثل هذا المكان ، وبيعت بلُقَم عيش مسمومة .
كلّما توغّل المرء في المذلّة ارتفع تاج رأسه ولمع ، وويلٌ لمن تُحدّثه نفسه العزّة ، يؤتى من قِبل قريبه قَبل البعيد ، ويتلقّى الطعن الحتفي منه .
عن الدّين هُجر ، وعن الدّنيا ابتُعد ، فلا المساجد عامرة ، ولا الأسواق ناهضة .
قلّدنا زمام أمورنا جُزافاً لطاعنينا ، فالسياسة لهم ، والاقتصاد لهم ، والصّناعة لهم ، والعلوم لهم ، ولم نُبق لأنفسنا إلاّ إسعاف المقال بأنّ : ” حضارتهم سرقت من حضارتنا ونحن أصولها ” ، ولست بمنكر استفادة الغرب من نتاج حضارتنا ، بالنّهب تارةً ، وبالطّوع أخرى ، ولكن : ( تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم .. )[1]
يا قوم ماذا يردّ عليكم عزّ أوّلكم     إن ضاع آخره أو ذلّ واتضعا [2]
لمّا أنظر إلى حال الأمّة الإسلاميّة اليوم أتذكّر المثل الصّومالي البليغ :” المريض تحت تصرّف الكلّ “[3] ، إلّا أنّ هناك فرقاً بين نصيحة النّاصح للمريض ، ونطيح قرن الغربيّين .
ليست هناك ريبة أنّ هذا السّؤال – ماذا سيكتب عنّا التّاريخ ؟ – يتردّد إلى أذهان المعنيّين بأمور الأمّة ، يصبّحهم ويمسّيهم ، لأنّني وأنت وهو نمثّل أفراد الأمّة الّتي ستُؤرّخ لها يوماً ما ، ويُبري الجميع – الموافق والمناوئ – أقلامهم ليدرسوا تاريخهم نقداً وتحليلاً وروايةً ومقارنة .
وذوو الهمّة لا يرضون لأنفسهم سيرةً سيّئة في حياتهم ، ولا يستطيعون أن يسمعوا عن أنفسهم وأهاليهم أو مجتمعهم وأمّتهم أخباراً لا تسرّهم ، وربّما يصحّ القول بأنّ الجميع متساوون في هذا ، ولكنّ الفيصل بين النّاس : النّظر البعيد للأمور ، فما لا يأبه به البعض يصبح الشّغل المثالي للبعض ، وهذا من التّفاوت الخِلقي في العقل ، والكسبيّ في العلم .
إنّ ما نكتبه اليوم على صفحات حياتنا ، وجدران معيشتنا ، هي سيرتنا الذّاتيّة الّتي نُقدّمها لمن بعدنا من الأجيال ، ليس لها استبدال ، ولا نُعوّض لنا عن فِعلة يوم واحدٍ أو ساعة واحدة وحتى ثانية واحدة .
 نرويها نحن ويكتبها من لا يعفو عن هفوةٍ صغيرةٍ نتفوّه بها ، فهي المكان الوحيد عنده الّذي لا يقبل القلم المُزيل ، أو الممحاة .
لا تذهب بك التخرّصات عن كيفيّة أسطر سيرتنا في مُدوّنات تاريخ من يخلفنا بعيداً ، ولا تتذبذب في العفو والتّجاهل عن أخبارنا الملطّخة بالسّواد أو عدم مغادرة صغيرة ولا كبيرة منها ، ولكن انظر إلى أخبار الماضين ، بطولاتُهم مرويّة ، وهزائمهم مسطورة ، زمن المجد في تاريخهم ليس كزمن الضّعف ، بعض الأزمان والمراحل تهيّج الرّوح عند قراءة أخبارها ، وبعضها تندم لها إن لم تنفجر بالبكاء .
هذا معنى التّاريخ في حياة الأمم ، هذا الّذي يؤرقني ويؤرق المهتمّين بأمور الأمّة ، فيا تُرى هل نُمجّد أم نُعزّى ، وهل يُقتدى بنا أم يُؤنف عنّا .
إنّ العناية بالذّكر الحسن غايةٌ سعى إليها العُظماء ، وشمّر لها الُعقلاء ، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السّلام يدعو ربّه ويقول :( واجعل لي لسان صِدقٍ في الآخرين )[4] ومُراده : ثناء صدقٍ مستمرّ ، وقد امتنّ الله تعالى على غير واحد من رسله عليهم الصّلاة والسّلام بقوله :( وتركنا عليه في الآخرين )[5] أي جعلنا له ثناء حسناً مُستمرّاً ، ورفع لخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلّم ذكره فقال :( ورفعنا لك ذكرك ) [6] ، وللخلفاء والملوك والأمراء والعلماء في ذلك شأو رفيع .
وإنما المرء حديث بعده     فكن حديثاً حسناً لمن وعى
لا أدري لِم نَقرأ تأريخ الانهزام لدى الأمم ، ولا نعتبر بها بل نطفق في التّعليق عليها بالذم والنّقد ، وقليلٌ منّا يقول في آخر كلامه أو مقاله ” كما نحن عليه اليوم !! ” ، ألا نعقل بأنّ يومنا هذا سيذهب ويأتي يومٌ يُعلّق علينا نحن ونُنتقد ، فما الّذي أعددنا له .
لا أظنّ أنّ القارئ نسي تلك المقولة الّتي نفذت إلى أعماق مشاعرنا جميعا من المستشارة الألمانيّة انجيلا ميركل : ” يوما ما سنخبر أحفادنا عن هروب اللاجئين السوريّين والفلسطينيين عبر مواكب الموت إلى أوروبا على الرغم من أن مكة وأرض المسلمين أقرب إليهم … ” !!
كلماتها الموجزة هذه تحمل رسالة المقال كلّه ، فهل وصلنا إلى هذا الحدّ من المذلّة ؟ لا أكاد أصدّق ولكن عليّ أن أصدّق ، فالواقع لا يكذب مهما حاولت تناسي الحقائق .
ولا شكّ في أنّ مثل هذه المراحل وأسوأ منها مرّت في حياتهم في حين كنّا على أوج مجدنا وعزّتا – كما هم عليه اليوم – ولكن ذهبت المكرُمات أحاديثَ :
ألهى بني تغلب عن كلّ مكرمة    قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
ولا تتذمّر أخي القارئ فالفرصة متاحة أمامنا ، وهي لناشئة الأمّة كاملة ، وللشيوخ [ كبار السنّ ] نصفها ، اعزموا الآن على التغيير ، رتّبوا الجداول ، ضعوا الأهداف ، ابدؤوا بالمهمّات ، وقبل ذلك : ميّزوا سبيل التغيير والتجديد عن سائر السّبل المتشابهة ، وأحسنوا المداخل ، فمن أخطأ المدخل أضاع المقصد .
هذا كتابي إليكم والنّذير لكم         فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل     فاستيقظوا إنّ خير القول ما نفعا [7]
وأخيراً أقول لكلّ من له تعلّق بالأخبار والتأريخ :
يا راوي التــــاريخ إنّ زمــاننا                 قد ساده ضعف القُرون وذامها [8]
فارحم جُدوداً قد رضوا من حالهم           أن صار في أيدي العدوّ زمامها
واستر شباباً لم يكن في علمهم              أن كان في مثل الزّمان مُقامها
…………………..
الهوامش
[1] البقرة 134 .
[2] البيت للقيط بن يعمر الإيادي .
[3] بالصّوماليّة ” nin buka boqol u talisay “
[4] الشّعراء 84 .
[5] الصافات 78 ، 108 ، 129 .
[6] الشرح 4 .
[7] الأبيات للقيط .
[8] الذيم والذام : العيب ، في معلّقة لبيد ( وكثيرة غرباؤها مجهولة…. تُرجى نوافلها ويُخشى ذامها )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق