دراسة
المؤلّفات المنسوبة إلى الإمام الشّافعي في العقيدة (1)
![]() |
الاسم الأعلى : مؤلف للمدون |
1- الفقه
الأكبر
[1]
هذه الرّسالة عبارةٌ عن كتابٍ صغير في
مسائل أصول الدّين كُتب على طُرّته " الفقه الأكبر في التوحيد ، للإمام أبي
عبد الله محمّد بن إدريس الشّافعي – رضي الله عنه – "
يقع المطبوع في ثلاثين ورقة من القطع
الصّغيرة ، طُبع بالمطبعة العامرة الشّرفيّة في مصر ، سنة 1324 هـ .
وهو مع صغر حجمه تناول جلّ الأبواب
العقديّة باختصار ، على الطّريقة المعهودة في المختصرات الكلاميّة .
واشتهر في الأوساط العلميّة كأحد
مؤلّفات الإمام الشّافعي – رحمه الله - ، ما أدّى إلى الاعتناء به نشراً وشرحاً
وتدريساً ، ومن أكبر الأعمال حوله كتاب " الكوكب الأزهر شرح الفقه الأكبر
" لمحمّد ياسين عبد الله الحنفي من علماء العراق ، طبع بمطبعة الشعب ببغداد
1986م .
وعلى غلاف نسخة مخطوطة من الكتاب [2]
كُتب اسم شرحٍ آخر للكتاب :" الشّمس الأنور في شرح الفقه الأكبر ، شرح
الرّسالة الكلاميّة للإمام الشّافعي المسمّى بالفقه الأكبر للفاضل أحمد بن محمّد
الصّديقي الألوري ."
وبعد دراسة متن الكتاب ، والبحث في
مصادر ذكره ، يظهر لي تهافت نسبته إلى الإمام الشّافعي – رحمه الله - ، وأنّه من
نتاج حركة الافتراء على الأئمّة ، وشواهد ذلك كثيرة أرصد بعضها في الوجوه التّالية
:
الوجه
الأوّل : لم يرد إثبات هذه الرِّسالة للإمام في أحدٍ من كتب أئمّة المذهب
رحمهم الله ، وغيرهم من المتقدّمين والمتأخّرين ، ولم يُشر أحدٌ منهم إليها ولا
اقتبس منها – حسب اطلاعي - .
وورد ذكره في تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان[3]،
قال :" ويُنسب إليه – أي الشّافعي - : كتاب الفقه الأكبر ، القاهرة أول 7 :
39 ، وطُبع في القاهرة 1900 م اهـ
وذكر شارح الكتاب أنّ
ذكر الكتاب ورد في فهرس المخطوطات العربيّة في مكتبة الأوقاف العامّة ببغداد ،
الجزء الثّاني صفحة 234 .[4]
وذكر في المقدّمة
أثناء تعريفه بالكتاب أنّ أقدم نسخة مخطوطة للكتاب هي النّسخة الّتي كتبها المدعوّ
: شهاب الدّين بن أحمد بن مصلح البصري سنة 986 ه . [5]
وبناءً على قوله هذا
فقد تأخّرت أقدم نسخة مخطوطة للكتاب عن الإمام الشّافعي سبعمائة واثنين وثمانين
سنة ، ولم يُشر إليها أثناء ذلك الوقت أحدٌ من العلماء ، وهذا دليلٌ على أنّ هذه
الرّسالة ليست للإمام الشّافعي ، بل ويبعُد أن تكون لأئمّة أصحابه وأصحابهم – كما
سيأتي إن شاء الله - .
ثمّ وقفت على ما ذكره
فؤاد سزكين في تاريخ التّراث العربي[6]
أثناء عدّه لمصنّفات الإمام الشافعي رحمه الله ، قال :" لم تتّضح بعد صحة
نسبة المؤلّفات التّالية إلى الشّافعي ... " وعدّ منها الفقه الأكبر وذكر أنّه محفوظ في المكتبة الأزهريّة رقم :664 (15 ورقة ، 292 ه ) وإذا صحّ هذا
التّاريخ انتفى الشّكّ في أصالة نسبة الكتاب إلى الإمام الشّافعي " اهـ .
قلت : لا أدري عن أمر
هذا المخطوط المُؤرّخ بتلك التّاريخ شيئا ، لأنّني لم أقف عليه بعد ، ولكنّي أخمن
بعدم صحّته وذلك للوجوه الآتية بعد هذا الوجه ، وقد علّق سزكين انتفاء الشك في
أصالته بصحّة التّاريخ ، ولم يقطع في ذلك .
وسيأتي كلام بعض
العُلماء الّذين ذكروا هذا الكتاب ونفوه عن الإمام رحمه الله في الوجه العاشر .
الوجه
الثّاني : أنّ المتكلّمين من الشّافعيّة وغيرهم الّذين ينسبون إلى الإمام أصول
عقائدهم جُزافاً من غير حجّة ولا برهان ؛ أحبّ النّاس إلى صحّة مثل هذه الرّسالة
عن الإمام الشّافعي رحمه الله ، لِما فيها من العقائد الموافقة لهم ، ولكنّهم لم
يذكروها ولا نقلوا عنها ، مع تكلّفهم الشّديد ، وركوبهم الصّعب والذّلول لإثبات كلاميّة
عقيدة الإمام الشّافعي رحمه الله .
الوجه
الثّالث : أنّ عموم ما جاء في هذه الرّسالة يشبه إلى حدّ كبير ما كتبه
المتكلّمون في عقائدهم كالأشاعرة ونحوهم ، حتى إنّها موافقة لبعض عبارات بعضهم وليس
فيها من عبارات أهل الحديث ، والشّافعيُّ رحمه الله منهم ، إلّا الشّيء القليل [7]
.
الوجه
الرّابع : أنّ الشافعيّ رحمه الله من أعلم العلماء بالحديث ، فقد كان رحمه
الله مُتقناً وضابطاً ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله : " ما عرفت ناسخ
الحديث من منسوخه حتى جالست الشّافعي " ، وكلامُ من تكلّم فيه مثل ابن معين ،
وابن المديني ، وابن عبد الحكم رحمهم الله
غير مقبولٍ .
وقد قال الحافظ ابن
عبد البرّ رحمه الله لمّا انتهى إلى كلام ابن معين في الشّافعي رحمهما الله :"
إنّه ممّا نُقم على ابن معين وعيب به " وذكر قول أحمد بن حنبل : من أين يعرف
يحيى ابن معين الشّافعي ؟ هو لا يعرف الشّافعي ، ولا يعرف ما يقوله الشّافعي ، ومن
جهل شيئاً عاداه ، وقيل : إنّه لم يرد الشّافعي وإنّما أراد ابن عمّه ، حكى ذلك
الإمام السّبكي في ترجمة أحمد بن صالح المصري [8].
ومن نظر إلى مُسنده
الّذي جمعه الحافظ أبو العبّاس الأصمّ ، والسّنن الّذي جمعه الإمام أبو جعفر
الطّحاوي ، ومعرفة السّنن والآثار الّذي جمعه الإمام البيهقي ، ونظر إلى مُصنّفات
الشّافعي المسندة مثل : الأم ، والرّسالة وغيرهما تبيّن له ذلك .
بل وربما اعتبرنا
الإمامَ رحمه الله من أوائل من صنّف في علوم الحديث وقواعده ونقده ، قال العلّامة أحمد محمود شاكر في مقدّمة [9]:"
إن أبواب الكتاب ومسائله، التي عرض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحجة
فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، ورد الخبر المرسل والمنقطع، إلى غير ذلك
مما يعرف من الفهرس العلمي في آخر الكتاب .. هذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب
العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كتب بعده إنما
هو فروع منه، وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق، لله أبوه. "
أقول : إنّ إماماً
بمثل هذه الدّرجة لغنيٌّ عن أن يحتجّ بأحاديث ضعيفة مع وجود ما يُغني عنها من
الصّحيح ، ولغنيٌّ عن أن يُهمل أسانيده إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم مع تواجده
في العصر الذّهبي للأسانيد .
وصاحب هذه الرّسالة
يظهر عليه قلّة معرفته بالحديث ، وذلك :
1- أنّه يورد أحاديث
ضعيفة في أبوابٍ مهمّة مع وجود غيرها من الصِّحاح الّتي تكفي عنها ، مثل احتجاجه
في فضائل الصّحابة بحديث ( أصحابي كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ) وهو حديث
موضوع [10]
2- أنّ الحجج العقليّة
عنده تطغى على الأدلّة السّمعيّة ، فمرّةً لا يوردها ويكتفي بحججه العقليّة ،
ومرّة يجعلها تبعاً لها ، وقليلاً ما يُصدّرها في أدلّته – في غير مقامي الّذات
والصّفات- .
3- أنّ جميع الأحاديث
الواردة في الكتاب غير مُسندة ، ويُورد بعض الأحاديث المشهورة بصيغة التّضعيف
والتّجهيل ، كما في صـ 36 منه عند استدلاله لعذاب القبر قال : " وقد روي في
الأخبار أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يقول في دعائه ( اللهمّ إنّي أعوذ بك
من الكفر والفقر ومن عذاب القبر لا إله إلّا أنت ) مع أنّ الحديث مشهور ، ورد في
الصّحيحين بلفظ آخر ، وفي أبي داود والنّسائي وأحمد وغيرهم بهذا اللفظ ، ويبعد أن
يورد الإمام الشّافعي رحمه الله حديثاً بمثل هذه الشّهر بصيغة تجهيل وتمريض .
الوجه
الخامس : أورد مؤلّف الكتاب في بعض الأماكن عبارة " أصحابنا "
وهي عبارة يستخدمها أتباع المذاهب والطّرق ، والشّافعي رحمه الله إمام المذهب ولا
يتأتّى منه مثل هذه اللفظة ، وهذا يدلّ على أنّ المؤلّف من المتأخّرين عنه ،
ويحتمل قصدُه بهذه العبارة هنا أصحابَه المتكلّمين وهو الأقرب ، أو الشّافعيّة ،
والله أعلم .
الوجه
السّادس : وهو قاصمة الظّهر ، أنّ المؤلّف قال أثناء عدّه للمذاهب في
مسألة إعادة الخلق "... وقالت الكرّاميّة : يُعيد مثله وأما عينه فلا "
.
والكرّاميّة أتباع
محمّد بن كرّام بالتشديد وهو المشهور ، أوالتّخفيف
كما قال شاعرهم :
الفقه فقه أبي حنيفة
وحده والدّين دين محمّد بن كرام
وقد توفي عام 255 ه ،
أي بعد وفاة الشّافعي بإحدى وخمسين سنةً ، والغالبُ في الظنّ أنّه كان إذ ذاك
شابّاً أو لم يولد بعد ، فكيف ينسب إليهم الإمامُ رحمه الله قولاً ولم يظهروا للوجود
، وهذه وحدها تكفي لبيان عدم صحّة هذه الرّسالة المنسوبة إلى الإمام عنه ، ولولا
أنّ بعض النّاس ما زالوا ينسبونها إليه لأعرضنا صفحاً عن نقدها .
الوجه
السّابع : أن الكاتب يستخدمُ ألفاظاً وعباراتٍ لم تُعرف في وقت الإمام
إلّا عند الخاصّة من المتكلّمين ، كالجوهر والعرض ، واستخدام دليل الممكن
والواجب . [11]
الوجه
الثّامن : أنّ الكتاب حافلٌ بالمعتقدات المُخالفة تماماً لعقيدة الإمام
رحمه الله الثّابتة عنه ككلامه عن أوّل واجب على المُكلّف ، وكلامه عن ذات الله ،
وكلامه عن الاستواء ، والكلام ، والصّفات ، وأفعال العباد ، والحكمة ، والنّبوّات
، وسيأتي بحثُها في الفصل المُخَصّص لعقيدة الإمام رحمه الله .
الوجه
التّاسع : وهو الأخير ، تصريح بعض العلماء والباحثين على أنّ هذا الكتاب
يرجع إلى أوساط كلاميّة وليس من كتب الإمام رحمه الله ، ومنهم :
- الحافظ العلّامة
محمّد بن إبراهيم ابن الوزير اليماني ، فقد قال في كتابه الفذ : إيثار الحق على
الخلق في ردّ الخلافات إلى المذهب الحق [12]
بعد كلامٍ له طويل عن مسائل القدر والجبر :" .. وقد اختار هذا صاحبُ الفقه
الأكبر ونسبَهُ إلى الشّافعيّ وهو على مذهب الأشعريّة .." .
- العلّامة صالح بن
المهدي المقبلي (ت 1108 ه) في كتابه العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء
والمشايخ [13]قال
:"
و من عجيب ما اطلعت عليه كتاب سماه صاحبه " الفقه الأكبر
" من محض مقلّدة الأشعري ذكر فيه غثّ الكلام و سمينه , و من دقائقه و جلائله
شيئا كثيرا , ثم عزاه إلى الإمام الشافعي! صانه الله تعالى , ولو كان للشافعي لحلّ
من أتباعه محلّ الإنسان من العين , و حاشا الشافعي من تلك الرذائل " اهـ .
- العلّامة حاجي خليفة
في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون[14]
قال :" الفقه الأكبر للإمام الشّافعي وهو جيّد جدّاً ، مشتملٌ على فُصولٍ
قرأه بعضُ أهل حلب على الشّيخ زين الدّين الشماع ، لكنّ فيه شكّ ، والظنّ الغالب
أنّه من تأليف بعض أكابر العُلماء " اهـ .
وكلام خليفة مكتوب على
طرّة غلاف المخطوط [15]
، ولم يُنسب إليه .
- وقال علي سامي
النشار الأشعري في نشأة الفكر الفلسفي [16]عن
الفقه الأكبر :" فيه أسلوب عصر فخر الدّين الرّازي ، وإن كانت آراؤه تمتُّ
إلى كثيرٍ من آراء الشّافعي في أصوله " اهـ
قوله :" وإن كانت
آراؤه تمتُّ إلى كثيرٍ من آراء الشّافعي في أصوله " غير مُوفَّق ، إذ أنّ من
له أدنى إلمام بمصنّفات السّلف الّتي تنقل عقيدة الشّافعي رحمه الله ، أو قرأ ما
صحّ عنه من العقائد ؛ يعرف أنّ عقيدة الإمام في وادٍ ، والعقيدة المُدوّنة في هذه
الرّسالة في واد آخر ، وهذا ما ستعرفُه بإذن الله في الفصول القادمة عن عقيدة إمام
أهل الأثر الشّافعي رحمه الله [17]
.
- وقال بروكلمان في
تاريخ الأدب العربي :" ويُنسب إليه – أي الشّافعي - : كتاب الفقه الأكبر ...
والرّاجح أنّه يرجع إلى أوساط أشعريّة " اهـ
- وتوقّف عن جزم نسبته
إلى الإمام الشافعي فؤاد سزكين كما تقدّم في الوجه الأوّل .
[1] هذه الحلقات مستلّة من كتابي " المذهب العقدي عند الإمام الشّافعي
" غير منشور .
[2] مصوّرة لدى جامعة الملك سعود .
[3] تاريخ
الأدب العربي : القسم الثّاني /321 .
[4] الكوكب الأزهر صـ 5 ، نقله عنه الحميدي في براءة الأئمّة الأربعة 89 .
[5] المصدر السّابق .
[6] المجلّد الأوّل 3/190
[7] منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة للعقيل صـ 2/467 .
[8] الطّبقات 10/487
[9] الرّسالة صـ13
[10] الضعيفة
للألباني 66 والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 5/64 وجامع بيان العلم وفضله لابن
عبد البرّ 2/91 .
[11] فقه العقيدة عند الشّافعي وأحمد 177
.
[12] الإيثار صـ 240 .
[13] العلم الشامخ صـ 420
[14] كشف الظنون 2/1287 .
[15] مخطوطة مصوّرة لدى جامعة الملك سعود بالرّياض .
[16] نشأة الفكر الفلسفي 1/246 .
[17] تفاصيل الكلام في الكتاب الأصل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق