مدونة المعرفة والتأصيل

مدونة المعرفة والتأصيل

السبت، 24 سبتمبر 2016

تُحفة ( عرب فقيه ) وحركة الإمام أحمد جُري


يُعدّ كتاب (تحفة الزّمان) من أبرز بل أبرز ما كتب قديماً عن تاريخ الصّومال ومسلمي الشّرق الإفريقي عموماً ، وحركة الإمام أحمد جُري ( الأشول / الجرّان / الغازي / المُجاهد ) الجهاديّة ضدّ النّصارى خصوصاً .
كانت حركة الإمام رحمه الله أوّل حركةٍ جهاديّة من نوعها قام بها إمام ينتمي إلى أصل صومالي ، حيث كانت أغلب الحركات الجهاديّة قبل الإمام يقوم بها سلاطين وأئمّة من أسر عربيّة ، قطنت البلاد منذ عهود قديمة .
ويبدوا من سير أحداث الجهاد أنّ الصّوماليّين لم يكونوا الوحيدين الّذين كانوا يجاهدون مع ابن عمّهم الإمام ، بل كان معهم  فصائل أخرى من العفر والعرب والمهرة وغيرهم من سكّان المنطقة ، بل صار أغلب جيشه في أواخر أيّامه من غير الصّوماليّين ممّن أسلم خلال الفتوحات ، ما أدّى إلى تقهقر حركة الإمام وتراجعها ثمّ انعدامها .
ويمكن أن نقول أنّ هناك عوامل عدّة كانت وراء بروز حركة الإمام ونجاحها في غضون سنوات منها :
1-              وجود القائد الأمثل ، فقد لعب الإمام دور القائد المحنّك في حروبه في التّدبير السّياسي ، والتشجيع الجهادي ، والتّوجيهي الدّيني ، علاوةً على ما كان يتّصف به من العلم والورع والعدل والعقل والشّجاعة ، والمُلفت للنّظر صغر سنّ الإمام الّذي كان ابن عشرين سنة عند بداية الحروب ، فللّه درُّه .
2-             توحّد قُوى القبائل الإسلاميّة في المنطقة ، بيد أنّه لم تُعدم انشقاقات وتراجعات داخل الصّفّ إلّا أنّها كانت تبوء بالفشل في أغلب الأحيان .
3-             الاستعداد النّفسي للجهاد ، واتخاذ الاستعداد من القوّة والتّكتيك الحربي وآلاته ، وقد كان مع الجيش علماءُ يحثّونهم على الجهاد ، وكانوا يقرؤون عليهم فضل الجهاد والمجاهد مثل كتاب " المشرع في فضل الجهاد " وغيره .
4-              ويمكن أن يُقال أنّ الانهزام النّفسي لدى النّصارى كان عاملاً مُهمّاً لإنجاح حركة جهاد الإمام ، فقد كان كثيرٌ من النّصارى يعتقدون أنّ الإمام ساحرٌ ولا يمكن دفعه ، وكان هذا ما ينعق به ملك الحبشة عندما اقترب منه الإمام في وقعة واصل على الجبل ، وللهزيمة النّفسيّة المعنويّة أثرها البارز على الجيوش والشّعوب .
كان الإمام أحمد رحمه الله حقيقا باسم " أحمد الفاتح " إلّا أنّ فتوحه ذهبت أحاديث بعد انهزام الجيش الإسلامي بالتدخّل الخارجي البرتغالي ، ولكنّ حركته تُعطينا درساً مُمتازاً عن مُقوّمات النّصر وأسباب الانحطاط .
وربّما لأحد أن يتصوّر أنّ نصارى الحبشة كانوا على عُسر من أمرهم قبل وبعد ابتداء الحركة الجهاديّة عسكريّاً واقتصاديّا وإداريّاً ، ولكنّ الكتاب يحكي لنا قصّةً مخالفة تماماً لهذا التصوّر فالحبشة كانوا أصحاب مملكة امتدّت منذ عهود قديمة ، وكانت عساكرهم خارجةً عن العدّ بالنّسبة للمسلمين ، بل كان عسكر بطريق واحد منهم أكثر من جميع الجيوش الإسلاميّة الغازية ، وكانت بلادهم تدرّ عليهم بالأموال الوفيرة من خيرات الأرض ، والجزية ، والخراج ، فكانت الكنيسة الواحدة من كنائسهم تُزيّن بالذهب والفضّة والحرير والقطن ما كان يعجز عن حمله جيوش الإمام ، فكانوا يحرقونها بعد أخذ ما يستطيعون حمله منها .
وكتاب "عرب فقيه" يمتاز بدقّة رواية الأخبار ، وذكر أسماء القوّاد والجيش والأماكن وأسماء الوقائع ، وتفاصيل الحروب والرّحلات ، وأحسن ما يميّز الكتاب حضور المؤلّف وقربه من الحروب ، فقد رافق الإمام إلى عُقر أرض الحبشة .
ولكنّه مع ذلك لم يسلم من النّقص من ناحية التّعبير ، والحرص على ضبط التّواريخ ، مع أنّ الكتاب ناقصٌ فُقد جزؤه الثّاني .
وممّا يؤسفني جدّاً أنّني لم أجد مُصنّفا عربيّا قديما عن أخبار الصّومال أو أخبار بعض أيّامها مثل هذا الكتاب (فتوح الحبشة) وهو ليس من تصنيف الصّوماليّين بل هو هديّة ثمينة عربيّة إلينا ، وكما ذهبت أخبار أيّامنا النّواصع في التّاريخ تذهب أخبار واقعنا إن لم يضبطها ذووها ويقيّدها بالحبال الواثقة صيّادوها .
فانظر إلى حركة الإمام محمّد عبد الله حسن ضدّ الاحتلال في بدايات القرن العشرين ، وانظر إلى حرب الصّومال مع حبشة ايثيوبيا في سبعينات القرن  الماضي ، يعسر وجدود مصنّف صومالي مثل تحفة الجيزاني العربي عنها ، نعم هناك مؤلّفات لا يستهان بها لعبت دوراً مهمّاً في حكاية أخبارها لكنّ المعاصرة ، ودقّة الأخبار غائبة عنها .
وأختم بطرفة مضحكة محزنة في الكتاب : يحكي لنا الجيزاني أنّ شجرة القات كانت سبباً لانكشاف رجال الإمام الّذين كانت يودّون أن يقبضوا سرّاً بالكفّ ملك الحبشة ، وذلك أنّ الإمام ورجاله لمّا طلعوا الجبل الّذي كان يتحصّن به ملك الحبشة فوقها ووصلوا إلى نصف الطّريق ولم يشعر بهم أحدٌ  إذا برجلٍ من أصحاب الإمام كان مُولعاً بالقات يحرق كنيسةً تحت الجبل ، فيشعر بهم رجال الملك .
والظاهر أنّه أحرق الكنيسة بعد ذهاب عقله بسبب تعاطيه القات ، والله المستعان .


عنوان الشّرف الوافي ... وابتكار ابن المُقرئ


لكلّ زاوية من زوايا التّراث الإسلامي خبايا مُستغربة  ولطائف مُستحسَنة ، ونحن اليوم مع إحداها متمثّلة في كتاب " عنوان الشّرف الوافي في علم الفقه والعروض والتّاريخ والنّحو والقوافي " الّذي وضعه: الإمام العلّامة ذو التّصانيف البديعة إسماعيل بن أبي بكر المُقرئ .
ليس غريباً اسمه ، ولا كبيراً حجمه ، ولا مجهولاً مُؤلّفه ، ولكنّه وبكلّ معنى الكلمة فريدٌ من نوعه ، بل لو قلنا أنّه لم يوضع مثله إلى عصره لكان لنا مخرجٌ في الإدّعاء ، وقد حلف بعضهم على ذلك ، ثمّ كثر المؤلّفون بعده على نمطه مثل ابن طنبل الشغري ، وابن كميل الدّمياطي ، والسّيوطي ، وغيرهم .
(عنوان الشّرف الوافي) يحتوي على فنونٍ خمسةٍ من العُلوم مُرتّبة ترتيباً تعجز عنه الأفهام قبل الأقلام ، فهو منطوٍ لمُؤلَّف في الفقه الشّافعي حمّله أربع رسائل أخرى ، واحدةٌ في العروض يتألّف نصّها من الحُروف الأولى الّتي تبتدئ منها أوائل سطور المجموع الفقهي ويحددها جدول عمودي في أوّل السّطور الفقهيّة ، وثانيةٌ في تاريخ مُلوك بني رسول تُستخرج من وسط السّطور ويحدّدها جدول عمودي لأوائل  السّطور ، وثالثةٌ في النّحو وهي تُستخرج كسابقتها من وسط السّطور ، ورابعةٌ في عُلوم القافية وتتألّف من الحروف الّتي تقع في نهايات سطور المجموع الفقهي .
ويُعتبر ابن المُقرئ مُبتكر هذه الطّريقة من التّصنيف الّتي تجمع فنوناً عدّة مدمجة في كتيبٍ واحد ، وواضعها على غير مثالٍ سابق ، ولا غرابة فهو أعجوبة عصره الذي قال عنه الشّوكاني في البدر :"إنّ اليمن لم تنجب مثله" .
وابن المُقرئ مُؤلّف كتاب " الإرشاد في اختصار الحاوي للقزويني " المعروف لدى أهل العلم والفقه في الصّومال بصعوبة تراكيبه وغرابة ألفاظه وغموض معانيه .
هذا ورسالتي إلى جميع الكُتّاب والمؤلّفين :
جدّدوا في فحوى التّأليف ، وابتكروا في طرقه ، وأخرجوه عن ظاهرة الاقتفاء وترديد المُحتويات بدون إضافة .




الفرائد البهيّة نظم القواعد الفقهيّة [ ركن الكتاب ]



تُعتبر منظومة " الفرائد لأبي بكر الأهدل " من أحسن المنظومات في قواعد فقه الإمام الشافعي وأصحابه ، وأوسعها فهي تقع خمسمائة وربع بيت من الرّجز .
نظم فيها الرّاجز الأبواب الثّلاثة الأولى من " الأشباه والنّظائر " للإمام المُفتِنّ السّيوطي ، وقد تكلّم في هذه الأبواب عن القواعد .
المنظومة مع بعض شروحها اشتهرت في القطر الصّومالي بعد التّسعينات ، وقد عُنيت في الدّاخل الصّومالي بالشّرح والحفظ .
ويُعتبر الشّيخ عبد الله علي جيلى – العالم الصّومالي المشهور – رائد هذا الكتاب ، فقد كان أوّل من شرحها ونشرها بين طلّاب العلم في غضون التّسعينات ، وشرحها ثلاث مرّات ، ثمّ تتالت بعده جهود العُلماء فيها .
ولكنّه لا يوجد حسب علمي من خدمها بالشرح أو التّعليق كتابةً ، وكلّ الجهود السّابقة كانت مقاليّة تقتصر على دروس الحلقات والتّسجيلات ، كما هو شنشنة بني الصّومال .
وللمنظومة شروح كثيرة طُبع بعضها في حين أنّ بعضها مخطوط إلى الآن ولم يحظ بالحياة الطّباعيّة – حسب علمي - ، ومن أشهر تلك الشّروح : " المواهب السنيّة " للجُرمزي ، وحاشيته "الفوائد الجنيّة " لمسند العصر محمّد ياسين الفاداني ، طبعتهما في جزأين دار البشائر الإسلاميّة ، و" الأقمار المُضيئة " لعبد الهادي الأهدل ، طبعته مكتبة الإرشاد بصنعاء ، وليوسف الأهدل شرحٌ سمّاه " المواهب العليّة " .
والأليق لطالب فقه ابن إدريس حفظها ، فلا يضبط الفقه إلّا بالقواعد ، ولا تصاد القواعد إلّا بالحفظ .

الشيخ العالم حسين فري.. صفحة من صبر علماء الصومال

ين الضحك والبكاء، والتعجب والرضا، والتلذذ الممزوج بالتأني تارة والاستعجال أخرى، يكون حالي لما أتصفح مكتوبا عن أحوال العلماء في طلب العلم، بل يطرب قلبي لبعض المرويات أشد من طرب المتلذذ بوقع العيدان وآلات اللهو والعصيان، وحينا تستقبل خدودي قطرات العيون الممطرة بالدموع ، فتشبع نبات اللحية ، وتقطر منها إلى الثياب أو الأرض.
وأنا أجزم أنكم مثلي فيما وصفته ، لعظمة المواقف التي يتعرض لها العلماء، وتقلب أحوالهم، وصادق عزمهم، وكبير همّهم، ويقين قصدهم، وجلالة صبرهم، وتلذذهم بالمشاق!، وكرههم للملذات، ومن حظيت مقلتاه بالنظر إلى جامع ابن عبد البر، وفقيه الخطيب، ومفتاح ابن القيم، وصفحات أبي غدة، وقيمته، وعاشق القرني، ومشوق العمران، وما تحكيه من أخبار العلماء في التعب والنصب، وقطع المسافات، وهجر النّوم والرّاحة والدّعة، وسائر الملذات، والصبر على الفقر وشظف العيش، وبيع اللوازم كالملبوسات والمفروشات، والجوع والعطش، ونفاد المال، وتلف الأعضاء والنفوس في سبيل طلب العلم!؛ لرأيت عجبا، وعنقاء مغربا.
كنت أتوقف طويلا وأفكر عند خبر ذاك العالم الذي ارتحل لطلب العلم، فكانت الرسائل – وهي قواطع – تأتيه من أهله ، فلا يفتحها! خشية أن تقطعه عن العلم، ومرّت عليه سنون خمس وهو على هذا الحال، ولما أراد الرحيل إلى بلده؛ قرأها جميعا، وكان فيها ما لو فتحها لحظة وصولها إليه لقطعته عن الاستمرار في طلب العلم، والإقامة في البلد الذي ارتحل إليه !!.
عزيمة فذة ، ليست لكل الرجال، أمسى خبره يتردد إلى سويداء قلبي كلما تحدثت عن تلك الصفحات المذهبات من صبر العلماء، ولكن لم يتناه إلي خبر ذاك العالم الذي لم أسمع له مثيلا في تاريخ العلماء وما تحملوه في سبيل العلم من مشاق ، قصة ذاك الشيخ الرباني، التقي الإمام، الفقيه ، الصومالي حسين فري.
فمن هو الشيخ حسين فري ؟
قبل أن أتحفكم بأخبار الفقيه حسين التي أرويها عن شيخي اللغوي الفقيه عبد الرحمن عبد الله معلم محمد فولو ( foolow) المعروف بالشيخ عبد الرحمن النحوي ، الذي أخذ بعض أخبار الشيخ حسين، عن شيخه عبد جنجالي ( gangaale ) وهو صهر الشيخ عبد الرحمن، وأخذ هو بدوره عن الشيخ الحاج علي تمعسى ( timo case ) – أي ذو الشعر الأحمر – وهو من طلاب الشيخ الفقيه العلامة حسين فري ؛ قبل ذلك أقول :
إن تاريخنا العتيق المجيد نحن الصوماليين مليء بالأيام الناصعة والأخبار الرائعة والمواقف الطالعة، مثل تلك التي نقرؤها في دواوين التاريخ العالمي والإسلامي، ولنا من المفاخر والأماجد ما نستطيع أن ننافس فيه مع غيرنا ، سواء كانت علمية أو أدبية أو نضالية، ولكن أكثرها بادت عنا وذهبت مع التاريخ، وأصبحت من خبر كان المجهول ، بل وأصبحت الكينونة مجهولة، لأنها كانت تحفظ في الصدور لا في السطور ، ففرّ ما حُفظ ولم يوجد مسطور فيقر، فحصدنا ثمارها مرّة، وأضحت النتيجة :
  • الخلاف الكثير في أساسياتنا التاريخية ، كأصل النسب، ومعاني الأسماء ومقتضياتها، ومنشأ الجنس الصومالي، وأصل اللغة، وغير ذلك .
  • ضآلة المكتوب عن الصومال القديم حديثا للفقر المعرفي عنه .
  • النهب التاريخي لمفاخرنا القديمة .
  • نسيان التاريخ العالمي لتلك الحقبة من الزمن الذي عاشته التاريخ الصومالي.
وغير ذلك، ويصدق علينا قول القديم :
مثلُ القوم نسُو تأريخهم *** كلقيطٍ عيّ في النّاس انتساباً
أو كمغلوب على ذاكرة *** يشتكي من صلةِ الماضي القضابا
وإن كان أكثرنا يتصبّر ويتسلى بمثل قول السابق :
فاقنع بما قسم المليك فإنّما *** قسم الخلائق بيننا علّامها.
وإذا كان ماضينا أخذ طريقه للتلف والنسيان فمن الغباء أن يذهب حاضرنا لمثله، مع وجود أكفاء وذوي قلم يرون مرارة الصفحات المطويّة من تاريخنا، ولذلك أهيب الباحثين والكتاب أن يهتموا بكتابة التاريخ المعاصر للصومال، ولئن كان السابقون معذورين بمعاذير تقبل بعضها ؛ فلا أرى عذرا للمعاصرين في ذلك.
ولنرجع إلى نشر مخبي أخبار الشيخ حسين فري الصومالي الأبسكولي– رحمه الله – كما رويتها عن شيخي المذكور :
الشيخ حسين الملقب بفري – ومعنى اللقب : ذو الأصبع المقطوعة – أحد كبار العلماء الصوماليين الّذين عاشوا في عهد الاحتلال الغربي للصومال ، وعاصروا السيد محمد عبد الله حسن، المناضل والمجاهد الصومالي المشهور.
ينتمي إلى ياسف ( يوسف ) أحد أفخاذ قبيلة أبسكول التي تقطن الغرب الصومالي – المحتل حاليا من قبل ايثيوبيا– وأجزاء من الصومال .
اشتهر بالعلم، والورع، والتقوى، والزهد ، كما اشتهر بصبره في طلب العلم ، وبكراماته المروية عنه ، وقد قال عنه الشيخ عبد الرحمن أفجطي ( af-gudhi ) المجيرتيني– أحد علماء الصومال – : إذا أطلق لفظ ” الشيخ ” فهو الشيخ حسين فري .
ارتحل الشيخ بعد أن أحاط بعلم أهل بلده إلى ” مقديشو ” – عاصمة الصومال الحالية – وكانت مهيعا للعلماء ، ثم رجع إلى بربرة ودرّس فيها، وارتبط به طلاب كثر ( حر/xer ) ، ثم انتقل بين البلاد حتى توفي في مدينة ( طجحبور/ dhagaxbuur ) وبني له قبة على قبره !! ([1]) ، وكان عالم البلاد في عصره .
تتلمذ عليه خلائق لا يحصون منهم شيخ الطريقة الصالحية في مناطق الشمال الشيخ إسماعيل الطلبهنتي ، جدّ الشيخ عمر ( طيري/dheere ) الساكن في مدينة بوهودلى، خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ، وتتلمذ عليه أيضا مقرئ الصومال المشهور الشيخ العالم علي صوفي ، والشيخ عبد الرحمن أفجطيالمجيرتيني، والشيخ الحاج علي تمعسىالأبسكولي ، وكان الأخير هو من يقرأ على الشيخ ، وكان من خواص تلاميذه .
الشيخ حسين والتفاني في طلب العلم ( قصة عجيبة ) :
رحل الشيخ – رحمه الله – كما ذكرنا إلى مدينة مقديشو ليأخذ من علمائها الذين اشتهروا وقتها بالعلم والفقه، وكانت لديه همّة قعساء ، وعزيمة صمّاء في طلب العلم ، وكان – رحمه الله – لا يعرف الفتور والتواني ، ويحذر كل الحذر عن القواطع والعوائق في طريقه ، فقد عرض له كثير من الآباء بناتهم عليه وهو في طلب العلم فرفض واعتذر منهم .
وله قصّة عجيبة في هذا المضمار لو ظفر بها الشيخ أبو غدة لكتبها في صدارة مؤلفه العجاب ” صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل ” ، وهي أنه بعث له رسالة من أهله وهو في مقديشو ، فلم يفض خاتمها خوفا من أن تقطعه عن مواصلة سيره في طلب العلم ، فاستكمل المسيرة لمدة عشرين سنة، والورقة عنده لم يفتحها!!، ولما وصل إلى مطلوبه، ونهل من حياض العلم؛ قرر الرجوع إلى قطره ، وأخرج تلك الورقة ليقرأ ما فيها ، فلم ينته من القراءة إلا وقد علم بأنه الوحيد من بين إخوانه على قيد الحياة، فقد ماتوا جميعا أو قتلوا في إحدى المشاهد !! .
وقد عرف الشيخ – رحمه الله –بالتقوى والورع وطيب النفس وكرمها ، وروي عنه في ذلك حكايات منها : أنه كان لا ينظر إلى النساء أبدا ولو كن زوجات بنيه، ولذلك لم يكن مهتما في أول حياته بأمور الزواج حتى بعد عودته إلى قطره، وكان الباعث على زواجه الأول :
أنه طلب من فتاة أن تحضر له وضوءا ، فأحضرته له وأعطته المُتوضأ صدقة عن أبيها، فأعجبه برها بأبيها، ووقع في روعه أن يتزوج ليترك ولدا يتصدق عنه بعد وفاته.
ويُروى أن إحدى زوجاته كانت شديدة عليه ، فنصحوه بفراقها، فما كان جواب قوله إلا أن قال : دعوها، وليكن ضررها وشدتها علي بدل أن تكون على مؤمن آخر !.
وقالت له يوما – تذمه بالبخل – : أنت رجل قطوع – بمعنى بخيل-، فقال لها مازحا: ما أعلمك باللغة !! ، ومرماه إلى أنها أوردت الوصف على المبالغة .
ومما يذكر عن الشيخ أن مجلسا جمعه مع السيد محمد عبد الله حسن، فسأله الأخير عن قبيلة صومالية كانت ضدّه أكفار هم ؟ فأجاب : بأنه لا يستطيع أن يكفر من قال لا إله إلا الله، من غير وجه حق – وكان رحمه الله محقا فيها -.
ويقال: إن إحدى القبائل اشتكت إلى الشيخ من حشرة الطوج ( dhuug ) وطلبت منه أن يسأل الله لهم أن يبعدهم عنه، فقال لهم: هل تعرفون مكانا لا يوجد فيه مسلم أسأل الله أن يبعد هذه الحشرة عنكم إليهم، فذكروا له اسم قبيلة صومالية !! وكان الشيخ لا يعرف عنها شيئا، وقبلت دعوة الشيخ فهجرت الحشرة إلى أرض القبيلة الأخرى، ولما علموا بالخبر ذهبوا إلى الشيخ واشتكوا له ، وعلم أنه كان مخدوعا !! ، فسأل الله أن يرجع الحشرة إلى مكانها الأصلي فرجعت إليه !!، هكذا يروى عنه ويعد من كراماته ، والله أعلم .
بارك الله للشيخ أهله ، ورزقه بأولاد صالحين، أصبحوا علماء بعده، منهم الشيخ محمد آدم بن الشيخ حسين، وعلي زياد، وعبد الله الكافي، وغيرهم .
وكان يشتغل طوال حياته بالدعوة والتعليم، وخاصة علمي التفسير والفقه، وقد درس الإرشاد لابن المقرئ كثيرا، وهو معروف بصعوبة تراكيبه وغرابة ألفاظه وغموض معانيه.
وأخباره في طلب العلم وتبليغه ، والزهد عن الدنيا، والورع والتقوى، ومعاملة الأهل والأصحاب، كثيرة لم أهتد إليها إلا ما سطرته، فرحمه الله وعفا عنه.
……………………………
 الهامش :
  • كان اللقاء مع الشيخ عبد الرحمن وسماع قصة الشيخ منه : يوم الخميس 8- سبتمبر – 2016 ، في مجلس المشايخ الصالحية في المسجد الجامع بلاسعانود – شمال الصومال.
([1]) بناء القبة على القبر غير جائز كما هو منصوص قول النبي صلى الله عليه وسلم .

لا بد للصومال ( قصيدة )


كفكف دموعكِ واهدئي يا عينُ          فبـهـاء مقلتكِ الـمهـا مـمنونُ
ستـزول مـأساة الـبـلاد عـشيـةً          فارع الحمى فزوالها مضمـونُ
لا فـقـر لا فـوضـى ولا حربا ولا          طفلا يضيع على الثرى محزونُ
لا حـاكما يطغى ولا شـعبا على          نـيرانهم يُـطهى ولا مـديـونُ
عـدوا مـعـي لا لا وكـلاّ ألــف لا          يـومَ الـزوال سـيعقل المجنونُ
وسيدرك الأطـفـــال أن أباهـم          فـذّ الـعـزيمـة فـارس ميـمـونُ
كـم كان للطاغين في تاريخـنا           أيام شؤم قد مـضـت وسنـونُ
أين الـجبَابرة الـطّغَام وعـزّهم           مـن فـارس والـروم يا محزونُ
أين الفراعنة الـملوك وملكهم           ومغـول تـتـْر بعدهم مطحونُ
لـو كـان لـلـتاريـخ عـود ثـانـيـا          لـتـغيـّرت أوضــاعـنا وشــؤونُ
لا بـدّ للصومال أن يـرث الــعُلا          فاليسر بعد العسر يا مـوهونُ
لا بـد للـصومال يومـا قــادمــا          مـجـدا عـتيقا عـائــدا سيـكونُ
لا بد لـلـصومال حـكـمـا عادلـا          يـرضى به قـلب الأبـيْ وعيونُ
لا بد للصومال أن يخـطـو على          سـبـل الـسلام وزادُه مـقـرونُ
لا أجـزم الأقـدارَ بـل أدعوك يـا          ربي ودمعي في السُيول هَتونُ
فالإرث إرثـي والبـلاد قـريـرتـي          وأنـا فـفـي صـومـالنا مـدفونُ

محمد برى علي يوسف

توضيح بشأن منظومتي " زينة الشوافع في دراسة العلوم العشرة على مذهب ابن شافع "


سبق أن نشرت قبل أسابيع منظومة على بحر الرجز تتكوّن من (100) بيت، وكان نشرها كما كتبت عليها [ للمراجعة ] ، وكتبت عليها أيضا [ نسخة أولية ] ، ومعنى ذلك أنها ليست النسخة النهائية للمنظومة ، ولذلك لما نشرتها في بعض المنتديات كتبت فوقها ( أطلب من الإخوة أن يرسلوا ملاحظاتهم إلي عبر ...) وذكرت بريدي الالكتروني ، وكتبت أيضا في صفحة الفيسبوك ( تنبيه: أطلب من الإخوة إعلامي بالأخطاء والهفوات بعد النظر فيهما وبوركتم ) .
ربما يتساءل القارئ لماذا تحشر كل هذه التنبيهات السابقة ؟
والجواب أنني في مثل هذه المرحلة لم أكن منتظرا للتعيير على المنظومة وعلى ناظمها – ولو ضمنا وإجمالا ومن باب : إياك أعني واسمعي يا جارة!! – وإطلاق غليظ الألفاظ عليهما جزافا!!، من بعض طلبة العلم الذين كنا ننتظر منهم تصحيح خطئها وتقويم عوجها، وسواء كان مراده هذه المنظومة أو غيرها فإن مصارحة النصح للشخص – إن أمكن الخلوص إليه -  أولى له من نشرها على العموم بإطلاقاتها المتهورة ! .
ولهذا – ولاقتضاء المقام الوقوف عليه – سأقف مع مصادر المنظومة وسبب عدم ذكري إياها في نظمي :
أولا : المنظومة ليست من بنات الأفكار ، وشأنها في ذلك شأن أكثر المنظومات العلمية فهي تجري على مجهود سابق للناظم أو لغيره ، فهي إما نظم لكتاب أو مؤلف معيّن ، وإما نظم لمعلومات متفرقة في مصادر عدّة .
ثانيا : مصادر المنظومة ليس مصدرا واحدا – ككتاب أو بحث ونحوه – بل من ستة مصادر أو أكثر ، ما بين كتاب وبحث منشور ، ولتعدد المصادر رأيت أن ذكر بعضها في المنظومة إهمال للبعض الآخر ، وإيراد جميعها تطويل للمنظومة بما يخرجها عن مقصودها ، وقد كان القصد فيها الإيجاز .
ثالثا : ليس معنى أني تركت ذكر المصادر في نفس المنظومة أني أهملتها إطلاقا وبهذا تكون " سرقة علمية " !! والعياذ بالله ، ولكني ولله الحمد ذكرت جميع ما تذكرت من مصادر المنظمة – قبل التعيير المذكور -  في شرح لطيف وضعته عليها أسميته بـ " التعليق النافع على زينة الشوافع " – يسّر الله إتمامه - ، وبه تخرج عهدتي من باب " السرقة العلميّة " المشينة ، وهذا منهجي – ولله الحمد – مذ وضعت الحبر على القرطاس ، وبدأت الكتابة ، وسيلاحظه القارئ في منشوراتي جميعا من " مقال ، أو كتاب ، أو بحث " ، وكنت قد كتبت قبل لحظتي هذه بأيام في أحد الأماكن التي أنشر فيها تنبيها على ظاهرة السرقة العلميّة المنتشرة اليوم بين الباحثين والناقلين – وبعضهم أعرفه بشخصه ! -  وموقفي منها، ونصّه :( يذرعني القيء المعنوي عندما أرى طالب علم أو باحثا يأخذ عن غيره معلومات بنصها وحرفها، فيحليها بأحد الصفحات التي ينشر فيها ، ثم يكتب عليها اسمه ! أو يهملها فلا يكتب عليها لا اسمه ولا اسم صاحبه ليظن القارئ أنه من إبداعاته .... ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .) ثم قلت :( الظاهرة أصبحت الآن ديدن بعض الطلاب ، حتى إذا اكتحلت العين بمنشوره يطرق إلى سويداء القلب قول الأول :" شنشنة أعرفها من أخزم " ، ولذا ومن هذا المنبر أنصح جميع الإخوة الانتهاء عن مثل هذا الأمر الذي يترجم عن حالة مذمومة في سلم التعلم تسمى بالتزبب قبل التحصرم ) .
رابعا : ومع هذا كله فإن إهمال مصدر المنظومة في المنظومة – بالتعيين - من عادة بعض كبار الناظمين العلماء كما فعله الشيخ العثيمين في نظمه لقواعد الفقه، و الفضفري في ألفيته في الفقه الحنبلي فإنه أخذها من زاد المستقنع وشرحه الروض كما أشار إليه الشيخ ابن عقيل في تقديمه له ، وقبلهما ابن رسلان الذي اعتمد في نظمه المسمى بـ ( صفوة الزبد ) على زبد البارزي بل قال بعض العلماء : أنه نظم لزبد البارزي مع أنه لم يشر إلى ذلك في المنظومة – حسب علمي - ، إن لم يكن اسمها دالا على ذلك ، ومرتقى الوصول لابن عاصم الغرناطي الذي قال عنه أحد العلماء :" وبعمل أدنى مقارنة بين الموافقات ومنظومة مرتقى الوصول ترى قوة الرابطة بين المصنفين وقرب الوشيجة بينهما " وابن عاصم تلميذ الشاطبي ،  ولو ذهبنا إلى المنثور واستخرجنا منه ما هو على هذا الغرار لوجدنا منه الكثير، فهل يقال في حقهم أنهم نبذوا الأمانة العلمية وراء ظهورهم ، وأنهم كلابس ثوبي زور ... الخ من قاموس الألفاظ الغليظة !! .
ورحم الله السخاوي إذ قال :
للحرف ميزان فلا تك طاغيا    فيه ولا تكُ مخسر الميزان
خامسا : لا أرى بأسا في سرد أهم مصادر المنظومة هنا :
1-             بحث بعنوان " منهجية التفقه في المذهب الشافعي بعلومه العشرة " كتبه الشيخ محمد سالم البحيري ، وقد أخذت منه ما يتعلق بالفنون العشرة وزدت عليه من غيره ، وهو مع وجازته كثير الفوائد والفرائد ، وقد نشره الكاتب في بعض المنتديات العلمية .
2-             كتاب "القاموس الفقهي في المذهب الشافعي " أو " دراسة موسوعيّة لمصطلحات الشافعية " ، كتبه الشيخ عبد البصير بن سليمان المليباري ، وهو كتاب قيم ، صدرت طبعته الأولى في هذا العام ( 2016 ) من دار النور بالأردن ، ومن فرعها في معرض الرياض الدولي اقتنيت الكتاب ، واعتمدت عليه في الفصل الأخير .
3-             مقدمات كتاب " موقف الاتجاه الحداثي من الإمام الشافعي " عرض ونقد ، كتبه الدكتور أحمد قوشتي ، وهو نافع أيضا في بابه، كما صدرت طبعته الأولى أيضا في هذا العام ( 2016 ) من مركز التأصيل للدراسات والبحوث بجدّة ، أخذت منه شيئا في التمهيد .
4-             المذهب الشافعي ، دراسة عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب الترجيح فيه ، لمحمد مغربية ، أخذت عنه أشياء في ذكر العلوم العشرة وما ألف فيها .
5-             مقدمات كتاب " الرسالة " للعلامة أحمد شاكر ، أخذت منه شيئا في التمهيد
6-             الاجتهاد وطبقات مجتهدي الشافعي، أخذت منه شيئا في التمهيد .
وسوى المذكور قليل .

سادسا : أنصح الكتاب والقراء – جميعا - بالتحول من شهوة النقد إلى نقد الشهوة، ومن حب الظهور إلى ظهور الحب، ومن هوي التغلب إلى التغلب على الهوى، والله المستعان وعليه التكلان .

لتحميل المنظومة :

مع زوايا الطنطاوي في كتابه " من غزل الفقهاء " [ ركن الكتاب ]


الغزل والفقهاء ، مصطلحان ربما ينبو اقترانهما عن أسماع بعض القراء ، وذلك لأن الغزل في سجلات تاريخه اقترن بالشعراء والأدباء أو من جهة أخرى بالمجون وذويه، في حين ارتبط اسم العلماء بالزهد وروّاد رحاب المساجد وكراسي الحديث والعلم، ما أدّى إلى عدم التزاوج بين المصطلحين، وبالأخص لدى الكادر المتخرج في الحوزات العلمية.
وباستيحاء المذكور من الواقع نقتصر على مسطور الطنطاوي في كلماته الأولى من الكتاب عن مقولة ذاك الشيخ المتزمت – كما وصفه هو - : ليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب أو يعرضوا للغزل !.
نعم، لأن الشريف فوق العادي في سمته وكلمه ومكتوبه، ولا يُستحسن له الخوض في أمر عرف بمن دونه، ووُسم إشهاره والاشتهار به بأرباب المجون.
ولكن المفطور البشري لا يفرق بين الجنس الذي فطر فيه، ومهما علا شأنه وارتفع كعبه فهو في المفطور فيه كسائر بني جنسه ، وإن اختلف ذاك الجنس في حفاظ مفطوره على أصله أو الغلو فيه والتفريط عنه، وهذا ما أراد الطنطاوي أن يبينه في الصفحات التي جمعها من غزل [المفطور البشري] العلماء .
ولما كان الشعر -قسيم المنثور- روضة المحبين، وجنّة المشتاقين، يطفئون به لهيب الاشتياق، عند تذكر العفيفات العتاق ؛ اقتصر كاتبنا على سرد منقوله عن العلماء، بعد توطئة جذابة عن الشعر ورفعة مكانته.
فكانت بداية رحلته الشعرية الغزلية العلمائية من جوهرة الأشعار الالتماسية المرصّعة بالتشبيب الغزلي العفيف :
وما سعاد غداة البين إذ برزت       كأنها   منهل   بالراح   معلول
هيفاء   مقبلة  عجزاء   مدبرة       لا يشتكى قصر منها ولا طول
ثمّ يمرّ الرّكب الغزلي بجهابذة من العلماء، فيقرُونه ويزودونه، ويقرظ بعضهم شعره بقوله " لا بد للمصدور من أن ينفث " .
ولكنّ العثرة في الغزل المنسوب إلى العلماء : وجود المجون فيه والفحش، وما لا يرتضيه لنفسه العامي فضلا عن العالم.
حاشا العلماء – رضوان الله عليهم – أن أنسب إليهم ذاك الغزل الطغياني غير العفيف، ولكن اللوم في ذلك على:
-      واضعيه ومؤلفيه، الذين نسبوه إلى العلماء تحت لبوس أي غرض كان.
-      وناقليه عنهم من الأدباء والكتاب دون تمحيص سنده، والتثبت عنه.
فما الذي يحمل عالما مثل الإمام عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود –أحد الفقهاء السبعة- أن يتغزّل بامرأة ويقول:
تجنبت   إتيان   الحبيب  تأثما       ألا أن هجران  الحبيب هو الاثم !
فذق هجرها إن كنت تزعم أنه      رشاد  ألا يا ربما  كذب  الزعم!
ولئن حملنا مقصوده – كما فعله كاتبنا – على ما ربط العقد، أو أباحه ملك اليمين ؛ فصعب أن نبرر لأبي القاسم القشيري في قوله – إن صح عنه - :
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا     ورأيت  كيف  تكرر  التوديعا !
لعلمت أن من الدموع محدثا    وعلمت أن من الحديث دموعا!
وأين العفة والعفاف والحب الطبيعي من وصل الأمرد ، ونسبة الافتتان به إلى أحد أكابر العلماء في عصره، قائلا فيه :
لكن خشيت بأن يقول عواذلي      قد جُنّ هذا الشيخ في هذا الصبي !!
 فالباب كثير الشوك ، ملتوي الطرق ، دقيق المسلك ، ضيق المخرج ، يحتاج إلى تؤدة وتروي ، وتثبت وتبيّن ، فكل منقول في دواوين الأدب عن أشراف العلماء في الحب والغزل لا يصح نسبته إليهم، وخاصة إذا تضمّن فحشا في الكلام، وفجورا في المقال .

ولو وقفت على الموضوعات الشعريّة المنسوبة إلى الأئمة – رضوان الله عليهم – لأخذتك الحميّة بالصّداع الكلّي، فانظر – إن شئت – تفنيدها في "روضة" ابن القيم، و"غذاء"السفاريني.

إمام الأدب الجاحظ، ورسالته في (مدح الكتب ، والحث على جمعها ) [ ركن الكتاب ]



رحمك الله يا عملاق الأدب وعظيمه، كتبت فأجدت، وأقرضت سواك ما لا يستطيعون أن يوفوه لك، من فرط كرمك، ووفرة حكمتك، ودهاء عقلك، وحرفة قلمك، وطوع قرطاسك، وضعت القلم على الكتاب لتتكلم عن الكتاب، واستفرغت خط الدواة لإبقاء فضل المكتوب والكتاب به.
كثيرة هي تلك الكتب التي تتكلم عن الكتاب – مفردة أو في ثنايا كتاب - ، ولكن قل أن تجد منها ما يضارع رسالة إمام الأدب وشيخه العلامة الجاحظ أبي عثمان عمرو بن بحر، في إيجاز الألفاظ مع استيفاء المعاني، وفي الرد الحكيم مع التقرير اللطيف، وفي جزالة الكلم والألفاظ مع وضوح المراد منها، وفي الأدب المذهب والبلاغة المرصعة بها ، وفي التحميس والتشحيذ ، ووقود الأذهان وإيقاظ الألباب النائمة بل والمتيقظة  .
وكما قال أديبنا ولا تعليق على كلامه فإن الكتاب : " نعم الذخير والعقدة، ونعم الجليس والعمدة"، " مؤنس لا ينام إلا بنومك ، ولا ينطق إلا بما تهوى "، " يجمع التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة "، وهو" مع خفة ثقله ، وصغر حجمه، صامت ما أسكتّه ، وبليغ ما استنطقته " ، " الجليس الذي لا يغريك ، والصديق الذي لا يطريك " " إن نظرت إليه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك"، " يطيعك بالليل طاعته لك بالنهار ، وبالسفر طاعته لك بالحضر"، " يشغلك عن شخف البيت ، وعن اعتياد الراحة وعن اللعب ".
ما أجمل القول ، وما أصدق الوصف ، وما أحسن اللهجة.
اجتهد – أخي القارئ- في طلبة هذه الرسالة، ومتع مقلتيك بها، وكرّر نظرك إليها، واستعن بها كلما خارت قواك العاطفية، وضعفت همّتك، تجدها معك صادقة، ولنصحك جاهدة، لا تخاف عنها طولا ، ولا ركاكة ، ولا إيجازا مخلا ، ولا قلة فائدة ، كيف وكاتبها معروف بالتأليف الممتع، والجمع المقنع، والبيان ..... ، واللغة الرفيعة ، والكتابة البديعة ، إذا ألف فهو الإمام ومن بعده المؤتمون ، وإذا تكلم بلسان قلمه فهو الخطيب وغيره المستمعون .
أما عن الكتاب والقراءة فليس لي بعد الجاحظ تعليق عليها إلا أني أتذكر أني قلت لفضلاء استنصحوني في هذا الباب : لو افترضنا أن شخصين اشتغل أحدهما في الحلقات، والأخذ من أفواه الرجال سائر عمره ، وجميع دهره ، ولم يلتفت إلى القراءة والمطالعة، والغوص في بطون الكتب، وأصبح نكرة في المكتبات ، واستنكرته عيون الصفحات، واشتغل الآخر في المطالعة والقراءة والعيش مع الكتاب ، ولم يأبه لدرر أفواه العلماء ، ولم ينتظم في الحلقات العلمية، وابتعد عن الأكابر إذا جلسوا في الزوايا ، فضلا عن الأصاغر والأقران ، فلا شك أن كلا منهما ينقصه جانب عظيم من جوانب العلم ، وأنهما يعومان في أمواج ليس لها بر ، ويعرجان برجل واحدة في سبيل العلم ، إلا أن الأخير الذي عرف طريقه إلى الكتاب والمكتبات ، وجوّد استعماله لها ، وأحسن تعامله مع الكتاب أكثر نفعا وانتفاعا من الآخر .
وقد وقفت على ما يؤيد كلامي في هذه الرسالة حيث قال الجاحظ :" وعرفت به [ أي الكتاب ] في شهر ، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر " .
فدونك يا طالب العلم الكتاب، فلا تكتف بقراءته بل أعطه ( حق القراءة ) ، وعش فيه  ولا تعش معه ، ولا تتخذه هواية بل اتخذه حياة .
وإن حدثتك نفسك بما يوهن علاقتك مع الكتاب فعاود قراءة لؤلؤة الجاحظ هذه، وهي رسالة أعدها لأمثالك تعريفا لك بفضل الكتاب، وشحذا لذهنك بالكلم العجاب .
وقد نشرت رسالة الجاحظ مفردة ولأول مرة – حسب العلم – في مجلة المجمع العلمي العراقي، عام 1380 ه ، المجلد الثامن – من صـ 335 إلى صـ 342 ، بتحقيق الفاضل : إبراهيم السامرائي ، وقد أورد الجاحظ نفسه في (الحيوان) أشياء منها ، لا كلها .
كلمة ختامية :
لا تمنعنا الجسارة العقلية لدى الجاحظ ، واعتزاله – وقد وصف بخطيب المعتزلة([1]) - ، والمنسوب إليه مما خولف فيه – صحت أو لم تصح – وبدعية بعض مقالاته؛ أن نقر له فضله، وتقدّمه على الكثير في مجاله، وجودة تأليفه، وصدارة مقامه بين الأدباء والكتاب ، وقد دل على هذا عدم استغناء أكثر الفرق عن كتبه ومصنفاته، واستشهادهم بمقولاته ، وفرحهم بكثير من مصنّفاته.
فرحمه الله وعفا عنه وعن جميع علماء المسلمين .



([1]) ذكره ابن تيمية الحفيد في الفتاوى المجموعة عنه 17/392 ، ووصف ابن قتيبة بخطيب أهل السنة .

الضيفنة الفكرية ( قصيدة )

تمهيد ( واقع النص الشعري ) :
الضيافنة الفكريون هم المستوفدون لغريب الأفكار ، وبعيد الآراء ، المصفقون لكل فكر وافد وإن لم يتسق مع مبادئ وثوابت الدين الإسلامي ، المتلقفون لحشاياه دون نظر في ماهيته ومآلاته ، واطلاع على مُنطلقاته التاريخية ، وتدابير مؤسساته المعاصرة .
هم المنفعلون تحت سطوة التأثير الغربي ، المنبهرون لطفرته الحضارية المادية البحتة ، المتأثرون بهم في الفكر والسلوك ، وأحيانا في بعض الأيديولوجيات والميتافيزيقيات ، ووجهةِ نظرهم للكون والحياة .
وهو ما أدى إلى انعكاس التأثر المذكور على حياتهم الثقافية ، فحاربوا التراث الديني بحجة كونه العامل الأكبر لتخلف الشعوب والدول ! خصوصا في العالم الإسلامي المعاصر ، ورموا العقلية الدينية بالرجعية والتخلف ! وأنها لا تستطيع المشاركة في نهضة ما بعد القرن العشرين ، وغير ذلك من الادعاءات والاتهامات الفضفاضة .
ولست في مقام التنكيت على أباطيلهم ، وإنما القصد الإشارة إلى مرمى النص الشعري الناعت لحال الضيافنة الفكريين .
والضيفن : الذي يتبع الضيف متطفلا ، وأصله الكلمة ضيف ، زيد عليها نون ، فأدت إلى تغير المعنى الأصلي ، وكان العرب يستثقلون الضيفن – الطفيلي – الذي يأتي مع الضيف دون دعوة سابقة ، كما قال شاعرهم :
إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفن *** فأودى بما تُقرى الضيوف الضيافن
ثريد كأن السمن في حجراته *** نجوم الثريا أو  عيون  الضياون[1]
واستعرت اللفظ هنا مع عدم مطابقته للمعنى الأصلي من سائر الوجوه إلا أن بعض الصور في المعنى المستعار له تلفى في المعنى الأصلي ، فكون الضيافنة الفكريين يستوفدون أفكارا لا يدركون منطلقاتها ومُخرجاتها ، واستثقال أهل الإسلام لمثلهم ، يشبه ورود الضيفن الطفيلي إلى موائد لا يعرف عن سميتها وسلامتها شيئا ، واستثقال الناس لهم .
(النص):
ضَيافنُ في الأفكار والعلمِ والقصَد *** إذا جاءهم يوما عن الغرب مُعتقد
وإن وجدوا الشرع الحنيف مخالفا *** أثاروا ضجيجا ذا التخلف فليُرد
يدوسون  بالأقدام راية  دينهم *** وقانون شرع الله  عندهمُ  صَفد
وأقبح موروث لدى القوم شِرعةٌ *** لها الحق في التحريم والعكسُ مُعتمَد
إذا قيل قال الله ، قال رسوله *** يُجيبك بالرجعِيْ، وذا القول قد يُضد
وإن نُسبت يوماً إلى الغرب فكرةٌ *** تكففها في الحال والقلبُ قد عقَد
سقوطُ خَلاق القوم عندهمُ بدَت *** تحررَ  أفكارٍ  ويا  ليتهُ   انتقَد
ولكن  شرع الله  غاية رجعة *** لديه وفي هذي الحضارة  مُفتقَد
يُذبذب بين الفيلقين تراه  في *** معاقلنا والقلب للغرب  قد  ورد
يداعب  إلحاداً  ليرضي ملوكه *** ولكنْ رضى الرّحمن حقاً قد ابتعد
فيا رب ثبتنا على الحق والتقى *** مماتاً  ومحيا  غافرَ الذنب والصمد
………………………………………………………………………………….
  • الهوامش :
 [1] الكنز اللّغوي في اللَسَن العربي لابن السكيت صـ 62 .
( غريب القصيدة ) :
ضيافن : تقدم .
 صفْد : من صفَد بالفتح : شده وقيده بالسلاسل ، ويُفتح المصدر في البيت لاستقامة الوزن .
والعكس معتمد : أي عكس التحريم وهو التحليل ، ومعناه : أنّهم يشمئزون من قصر التحليل والتحريم على الشريعة .
تكفف : مد كفه .
الفيلقين : تثنية فيلق : الكتيبة العظيمة من الجيش .
معاقل : جمع معقل : الملجأ .

الكتابة بين إجحاف اللّفظ وإهمال المعنى

حظِيت الكتابة قديماً وحديثا باكتراث قِطَبة اللّغة والبلاغة ، وتمحورت فيها كثيرٌ من أبحاثهم ودراساتهم النّظريّة ، وإمضاءاتهم التّأليفيّة ، وومضاتهم التعليميّة . فصّلوا في مضامين قواعدها وضوابطها ، ووضعوا معايير حسنها وجمالها ، مُحكِّمين أُسُسها ومبادئَها ومتحاكمين إليها .
سبروا معسول أقلام الكُتّاب ، وفرزوا بين الصحيح والسّقيم ، وأناروا أوجه الجمال والعذوبة في المكتوب وفق معاييرهم العلميّة أو الذّوقيّة ، فقدّموا أرباب الجمال الكتابي والرّونق التأليفي على أصحاب الأقلام الفارغة والكتابات القاصرة .
وقد تعدّد النّظر التّقييمي على الكتابة ، وتجاذب أطرافه خِدّان فنون اللغة ، وكانت قضيّة ( اللفظ والمعنى ) من أنير القضايا الّتي حظيت بعناية جمهرة من اللغويّين والبلاغيّين ، وأثارت أقلام مُنظّري اللغة ، ومتذوّقي البلاغة ، وفيها سُطّر عن العتابي قوله :” الألفاظ أجساد، والمعانى أرواح ؛ وإنما تراها بعيون القلوب ، فإذا قدّمت منها مؤخّرا ، أو أخّرت منها مقدّما أفسدت الصورة وغيّرت المعنى ؛ كما لو حوّل رأس إلى موضع يد ، أو يد إلى موضع رجل ، لتحوّلت الخلقة ، وتغيّرت الحلية . “[1] .
والموافقة بين اللفظ المكتوب والمعنى المقصود حسن رصافةٍ للكلام ، يجذب إليه الأذواق والعقول ، ويستدرّ من عُشّاق القراءة الوقوفَ مُطوّلاً عليه ، وتقليبَ صفحاته ، وتكرارَ نظرات التعجب الإيجابي إليه ، وتستحثّ خلايا الفكر أثناء قراءته لإبداع صنوه ، والاحتذاء بأثره .
ولئلاّ أنكب عن زمام صريمة المقال إلى ما أربت الكتابة عنه المئات – وكفى بالإشارة إلى أهميّة ( اللفظ والمعنى ) في اللغة إثارة – أرجع وأقول :
لم يكن يجاهر بالكتابة – العلميّة أو الأدبيّة أو غيرهما – في العهود السّابقة – عهود ما قبل الثّورة التِّقنيّة الحديثة – إلّا الإختصاصيّون والمتضلّعون فيما يكتبون عنه ، الّذين يراعون المكتوب ويحترمون القارئ ، فسادت عليهم سُحُب جمال الإبداع ، واستُعذبت أسطر الكتابات ، وندرت هفوات المقالات والمؤلّفات ، ممّا صيّرها مُبتغى أفئدة النّاس ، ومُلتقى مُقل الأكياس .
على خُطاهم في الكتابة دبّ المؤلّفون والكتّاب ، ومن سطور مكتوبهم قعّد المنظّرون أسس الكتابة والتدبيج ، فكانت حقّاً بهجة التّراث العربي .
الإجادة في الكتابة لم يكن مِحكّ الأدباء والبلاغيّين وأهل اللغة فحسبُ ؛ بل حَفَل بها أغلب خِلّان الفنون ، فراعوا التّناسق والتّرتيب في المكتوب ، وأَولَوا اهتماما بأُسس اللغة ومبادئها ، واجتهدوا في مَنح المُدوَّن نَكهة أدبيّة بلاغيّة ، يتمتّع بقراءته القارئ ويستنشق منه علماً وأدباً في نفس الوقت ، منهم من يقتصر على إبداء المعلومة بهيكلها اللغوي السّليم ، وتحسين ترتيبها وترصيفها ، والرّعاية على التّطابق بين اللفظ المُسَجَّل والمعنى المراد ، ومنهم من شذاها بعبير اللغة والأدب ، كالغراميّة أو ( غرامي صحيح ) في مصطلح الحديث ، ومنظومة الكلوذاني في أصول الدين وغيرهما .
 وعلى المنوال عُمّر سوق الكتابة ، وازدهرت أساليبُ الدّيباجة ، وأصبح النّاس فيها بين مُقدِم واثق بنفسه ، موثوق لدى النّاس ، وبين مُحجم عنها ، لا يعرض لنفسه مسامّ الكلم ، ومجامع النّقد ، ومن عرض مكتوبه فقد أبدى أسرار معرفته .
وبعد النّهضة التقنيّة الحديثة ، وتسرُّب النّاس إلى عصر ” حُريّة النّشر ” ، واستحداث خدمات البثّ المُتاحة ، وتوسّع دوائر النّشر المعرفي والثقافي ، وإطلاق عَنان الإعلام الّذي أصبح في مُتناول يد الجميع تلقّياً وإذاعةً ؛ تأثّر فنّ الكتابة به – عموماً – سلباً وإيجاباً .
فمع توفّر بيئة تقرأ للكاتب مهما كانت مهاراته العلميّة ، وقُدراته المعرفيّة ، لم تعد هناك قيودٌ عن إفشاء المكنون في الصّدور ، وأفلت الرّعشة عن نشره ، فأُخذ القلم بحقّه طورا وبدونه أخرى .
والمُحاولة وإن كانت بحدّ ذاتها محمودة إلّا أنّها لمّا تكون على حساب العلوم ، وتُشاع في حيّزٍ غير مناسبٍ لها ؛ تصبح مثلوبة ، فلكلّ فرسٍ ميدان ، ولكلّ مقالة مقام ، والمجيدون لرونقة التّرصيف كُثر ، ويُعدّون قسيماً لفرعين أهملت كلٌّ منهما أحد جناحي الكتابة ( اللفظ ، المعنى ) :
فثُلّة منهم يُحسنون الانتقاء من القواميس ، واستيراد الكلمات العويصة ، والجمل الرّكيكة ، والأمثال المستصعبة على الإدراك ، يعتنون بقالب الكلام أكثر من قلبه ، ويطغى الاهتمام بظاهر المقال لديهم على الاكتراث بباطنه ، فتضيع فكرة المقال بين أسطر شبيه ” المقامة !!” المكتوبة ، ويصعب على القارئ المستفيد إدراك المبنى قبل المعنى ، ومعلومٌ أنّ الفِكرَ إذا تشتّت صعُب عليه الإدراك والاستيعاب .
مثل هذا الصّنيع ليس مذموماً على الإطلاق ، بل يحسن في جنس الكتابات الأدبيّة أو اللّغويّة ، فغالباً ما يكون مقصوداً فيها ، ليغور المطّلع في أعماق اللغة ، وقَرارِ الأدب والبلاغة ، وليُروّض لسانه ، ويُرْبِي حصيلته اللغويّة ، ولكن الأمر لا يُستحسن في الكتابة المقصود منها إيصال فكرةٍ عن أمرٍ ما ، وذلك لصيرورته عتبةً صعبة الاجتياز أمامَ المدخل إلى المقال أو الكتابة .
أمّا الثلّة الأخرى فبعكس السّابقة ، غضوا الطرف عن سَبكِ المكتوب ، وترتيبه ، ومراعاة قواعده وأسسه اللّغويّة ، وودّعتهم سلامة التّعبير ، ونَقَاهة التوضيح ، فالكلمات مكسّرة ، والجمل مبعثرة ، والصياغة هشّة ، والقواعد مُقَلّصة غير مُطبّقة .
إحاطة مقصودهم ربما تُدرك بصعوبة وربما تعسُر على الفهم ، فسهولة مفرداتهم تقضي فهم شيء من مُرادهم ، وضآلة صياغتهم وتصريفهم تسبب عدم إدراك قصدهم .
والفيصل بين الفيلقين أنّ المحصول المعرفي واللغوي لدى الفريق الأوّل أكثر من الفريق الثاني في الغالب ، فالأوّلون يظهرون عضلاتهم العلميّة والآخرون يروّجون لبضاعتهم المزجاة .
وبما أنّ مِخلاة الكاتب كشكول القارئ فينبغي التوسّط في تسبيك الألفاظ ، والاهتمامُ باتساقها مع الفهم ، ومُراعاة وضوح الفكرة ، وسهولة إدراك القارئ عليها ، وإنّما يقوم الكلام ” بلفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ” [2]
وينبغي الاحتراز – قدرَ الوُسع – عن العُجمة اللغويّة الّتي تُرافق أقلام الكُتّاب غير العرب ، ولها مظاهرها وأسبابها وحُلولها – وربّما سنكتب عنها بإذن المولى في مقالاتنا القادمة – ، وهي إحدى بواعث التقصير عن الاكتراث بعلاقة اللّفظ بالمعنى ، وتُذهب أحياناً السلاسةَ عن صياغة الكلام ، والربطِ بين الجُمل ، وتدرّجِ الوصول إلى الأفكار الرّئيسيّة ، وحسنِ التمهيد والاختتام .
وصناعة الكتابة وصيانتها فنٌّ أُلّف عنها العديد من الكتب والرّسائل ، ويحسُن لرامي الكتابة الوقوف عليها ، ومطالعتها .[3]
  • الهوامش
[1] كتاب الصّناعتين – الكتابة والشّعر – لأبي هلال العسكري صـ169 .
[2] ما بين القوسين لأبي سليمان الخطابي في بيان إعجاز القُرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ27 .
[3] منها : كتاب الصناعتين الكتابة والشعر لأبي الهلال العسكري ، وصيانة الكتاب للغامدي ، وفي كتب ” أدب الكاتب ” فصول مهمة في الباب كأدب الكاتب لابن قتيبة ، وشرحه للجواليقي ، والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير ، وللبلاغيّين والأدباء في قضيّة ” اللفظ والمعنى ” خصوصاً بحوث كثيرة منشورة من أحسنها كتاب ” قضيّة اللّفظ والمعنى ونظريّة الشّعر عند العرب ” للودرني ، مطبوع بمجلّدين .