يُعدّ كتاب (تحفة الزّمان) من أبرز بل
أبرز ما كتب قديماً عن تاريخ الصّومال ومسلمي الشّرق الإفريقي عموماً ، وحركة
الإمام أحمد جُري ( الأشول / الجرّان / الغازي / المُجاهد ) الجهاديّة ضدّ
النّصارى خصوصاً .
كانت حركة الإمام رحمه الله أوّل حركةٍ
جهاديّة من نوعها قام بها إمام ينتمي إلى أصل صومالي ، حيث كانت أغلب الحركات
الجهاديّة قبل الإمام يقوم بها سلاطين وأئمّة من أسر عربيّة ، قطنت البلاد منذ
عهود قديمة .
ويبدوا من سير أحداث الجهاد أنّ
الصّوماليّين لم يكونوا الوحيدين الّذين كانوا يجاهدون مع ابن عمّهم الإمام ، بل
كان معهم فصائل أخرى من العفر والعرب
والمهرة وغيرهم من سكّان المنطقة ، بل صار أغلب جيشه في أواخر أيّامه من غير
الصّوماليّين ممّن أسلم خلال الفتوحات ، ما أدّى إلى تقهقر حركة الإمام وتراجعها
ثمّ انعدامها .
ويمكن أن نقول أنّ هناك عوامل عدّة كانت
وراء بروز حركة الإمام ونجاحها في غضون سنوات منها :
1-
وجود القائد الأمثل ، فقد لعب الإمام دور القائد
المحنّك في حروبه في التّدبير السّياسي ، والتشجيع الجهادي ، والتّوجيهي الدّيني ،
علاوةً على ما كان يتّصف به من العلم والورع والعدل والعقل والشّجاعة ، والمُلفت للنّظر
صغر سنّ الإمام الّذي كان ابن عشرين سنة عند بداية الحروب ، فللّه درُّه .
2-
توحّد قُوى القبائل الإسلاميّة في
المنطقة ، بيد أنّه لم تُعدم انشقاقات وتراجعات داخل الصّفّ إلّا أنّها كانت تبوء
بالفشل في أغلب الأحيان .
3-
الاستعداد النّفسي للجهاد ، واتخاذ
الاستعداد من القوّة والتّكتيك الحربي وآلاته ، وقد كان مع الجيش علماءُ يحثّونهم
على الجهاد ، وكانوا يقرؤون عليهم فضل الجهاد والمجاهد مثل كتاب " المشرع في
فضل الجهاد " وغيره .
4-
ويمكن أن يُقال أنّ الانهزام النّفسي لدى
النّصارى كان عاملاً مُهمّاً لإنجاح حركة جهاد الإمام ، فقد كان كثيرٌ من النّصارى
يعتقدون أنّ الإمام ساحرٌ ولا يمكن دفعه ، وكان هذا ما ينعق به ملك الحبشة عندما
اقترب منه الإمام في وقعة واصل على الجبل ، وللهزيمة النّفسيّة المعنويّة أثرها
البارز على الجيوش والشّعوب .
كان الإمام أحمد رحمه
الله حقيقا باسم " أحمد الفاتح " إلّا أنّ فتوحه ذهبت أحاديث بعد انهزام
الجيش الإسلامي بالتدخّل الخارجي البرتغالي ، ولكنّ حركته تُعطينا درساً مُمتازاً
عن مُقوّمات النّصر وأسباب الانحطاط .
وربّما لأحد أن
يتصوّر أنّ نصارى الحبشة كانوا على عُسر من أمرهم قبل وبعد ابتداء الحركة
الجهاديّة عسكريّاً واقتصاديّا وإداريّاً ، ولكنّ الكتاب يحكي لنا قصّةً مخالفة
تماماً لهذا التصوّر فالحبشة كانوا أصحاب مملكة امتدّت منذ عهود قديمة ، وكانت
عساكرهم خارجةً عن العدّ بالنّسبة للمسلمين ، بل كان عسكر بطريق واحد منهم أكثر من
جميع الجيوش الإسلاميّة الغازية ، وكانت بلادهم تدرّ عليهم بالأموال الوفيرة من
خيرات الأرض ، والجزية ، والخراج ، فكانت الكنيسة الواحدة من كنائسهم تُزيّن
بالذهب والفضّة والحرير والقطن ما كان يعجز عن حمله جيوش الإمام ، فكانوا يحرقونها
بعد أخذ ما يستطيعون حمله منها .
وكتاب "عرب
فقيه" يمتاز بدقّة رواية الأخبار ، وذكر أسماء القوّاد والجيش والأماكن
وأسماء الوقائع ، وتفاصيل الحروب والرّحلات ، وأحسن ما يميّز الكتاب حضور المؤلّف
وقربه من الحروب ، فقد رافق الإمام إلى عُقر أرض الحبشة .
ولكنّه مع ذلك لم
يسلم من النّقص من ناحية التّعبير ، والحرص على ضبط التّواريخ ، مع أنّ الكتاب
ناقصٌ فُقد جزؤه الثّاني .
وممّا يؤسفني جدّاً
أنّني لم أجد مُصنّفا عربيّا قديما عن أخبار الصّومال أو أخبار بعض أيّامها مثل
هذا الكتاب (فتوح الحبشة) وهو ليس من تصنيف الصّوماليّين بل هو هديّة ثمينة عربيّة
إلينا ، وكما ذهبت أخبار أيّامنا النّواصع في التّاريخ تذهب أخبار واقعنا إن لم
يضبطها ذووها ويقيّدها بالحبال الواثقة صيّادوها .
فانظر إلى حركة
الإمام محمّد عبد الله حسن ضدّ الاحتلال في بدايات القرن العشرين ، وانظر إلى حرب
الصّومال مع حبشة ايثيوبيا في سبعينات القرن
الماضي ، يعسر وجدود مصنّف صومالي مثل تحفة الجيزاني العربي عنها ، نعم
هناك مؤلّفات لا يستهان بها لعبت دوراً مهمّاً في حكاية أخبارها لكنّ المعاصرة ،
ودقّة الأخبار غائبة عنها .
وأختم بطرفة مضحكة
محزنة في الكتاب : يحكي لنا الجيزاني أنّ شجرة القات كانت سبباً لانكشاف رجال
الإمام الّذين كانت يودّون أن يقبضوا سرّاً بالكفّ ملك الحبشة ، وذلك أنّ الإمام
ورجاله لمّا طلعوا الجبل الّذي كان يتحصّن به ملك الحبشة فوقها ووصلوا إلى نصف
الطّريق ولم يشعر بهم أحدٌ إذا برجلٍ من
أصحاب الإمام كان مُولعاً بالقات يحرق كنيسةً تحت الجبل ، فيشعر بهم رجال الملك .
والظاهر أنّه أحرق
الكنيسة بعد ذهاب عقله بسبب تعاطيه القات ، والله المستعان .