ين الضحك والبكاء، والتعجب والرضا، والتلذذ الممزوج بالتأني تارة والاستعجال أخرى، يكون حالي لما أتصفح مكتوبا عن أحوال العلماء في طلب العلم، بل يطرب قلبي لبعض المرويات أشد من طرب المتلذذ بوقع العيدان وآلات اللهو والعصيان، وحينا تستقبل خدودي قطرات العيون الممطرة بالدموع ، فتشبع نبات اللحية ، وتقطر منها إلى الثياب أو الأرض.
وأنا أجزم أنكم مثلي فيما وصفته ، لعظمة المواقف التي يتعرض لها العلماء، وتقلب أحوالهم، وصادق عزمهم، وكبير همّهم، ويقين قصدهم، وجلالة صبرهم، وتلذذهم بالمشاق!، وكرههم للملذات، ومن حظيت مقلتاه بالنظر إلى جامع ابن عبد البر، وفقيه الخطيب، ومفتاح ابن القيم، وصفحات أبي غدة، وقيمته، وعاشق القرني، ومشوق العمران، وما تحكيه من أخبار العلماء في التعب والنصب، وقطع المسافات، وهجر النّوم والرّاحة والدّعة، وسائر الملذات، والصبر على الفقر وشظف العيش، وبيع اللوازم كالملبوسات والمفروشات، والجوع والعطش، ونفاد المال، وتلف الأعضاء والنفوس في سبيل طلب العلم!؛ لرأيت عجبا، وعنقاء مغربا.
كنت أتوقف طويلا وأفكر عند خبر ذاك العالم الذي ارتحل لطلب العلم، فكانت الرسائل – وهي قواطع – تأتيه من أهله ، فلا يفتحها! خشية أن تقطعه عن العلم، ومرّت عليه سنون خمس وهو على هذا الحال، ولما أراد الرحيل إلى بلده؛ قرأها جميعا، وكان فيها ما لو فتحها لحظة وصولها إليه لقطعته عن الاستمرار في طلب العلم، والإقامة في البلد الذي ارتحل إليه !!.
عزيمة فذة ، ليست لكل الرجال، أمسى خبره يتردد إلى سويداء قلبي كلما تحدثت عن تلك الصفحات المذهبات من صبر العلماء، ولكن لم يتناه إلي خبر ذاك العالم الذي لم أسمع له مثيلا في تاريخ العلماء وما تحملوه في سبيل العلم من مشاق ، قصة ذاك الشيخ الرباني، التقي الإمام، الفقيه ، الصومالي حسين فري.
فمن هو الشيخ حسين فري ؟
قبل أن أتحفكم بأخبار الفقيه حسين التي أرويها عن شيخي اللغوي الفقيه عبد الرحمن عبد الله معلم محمد فولو ( foolow) المعروف بالشيخ عبد الرحمن النحوي ، الذي أخذ بعض أخبار الشيخ حسين، عن شيخه عبد جنجالي ( gangaale ) وهو صهر الشيخ عبد الرحمن، وأخذ هو بدوره عن الشيخ الحاج علي تمعسى ( timo case ) – أي ذو الشعر الأحمر – وهو من طلاب الشيخ الفقيه العلامة حسين فري ؛ قبل ذلك أقول :
إن تاريخنا العتيق المجيد نحن الصوماليين مليء بالأيام الناصعة والأخبار الرائعة والمواقف الطالعة، مثل تلك التي نقرؤها في دواوين التاريخ العالمي والإسلامي، ولنا من المفاخر والأماجد ما نستطيع أن ننافس فيه مع غيرنا ، سواء كانت علمية أو أدبية أو نضالية، ولكن أكثرها بادت عنا وذهبت مع التاريخ، وأصبحت من خبر كان المجهول ، بل وأصبحت الكينونة مجهولة، لأنها كانت تحفظ في الصدور لا في السطور ، ففرّ ما حُفظ ولم يوجد مسطور فيقر، فحصدنا ثمارها مرّة، وأضحت النتيجة :
- الخلاف الكثير في أساسياتنا التاريخية ، كأصل النسب، ومعاني الأسماء ومقتضياتها، ومنشأ الجنس الصومالي، وأصل اللغة، وغير ذلك .
- ضآلة المكتوب عن الصومال القديم حديثا للفقر المعرفي عنه .
- النهب التاريخي لمفاخرنا القديمة .
- نسيان التاريخ العالمي لتلك الحقبة من الزمن الذي عاشته التاريخ الصومالي.
وغير ذلك، ويصدق علينا قول القديم :
مثلُ القوم نسُو تأريخهم *** كلقيطٍ عيّ في النّاس انتساباً
أو كمغلوب على ذاكرة *** يشتكي من صلةِ الماضي القضابا
وإن كان أكثرنا يتصبّر ويتسلى بمثل قول السابق :
فاقنع بما قسم المليك فإنّما *** قسم الخلائق بيننا علّامها.
وإذا كان ماضينا أخذ طريقه للتلف والنسيان فمن الغباء أن يذهب حاضرنا لمثله، مع وجود أكفاء وذوي قلم يرون مرارة الصفحات المطويّة من تاريخنا، ولذلك أهيب الباحثين والكتاب أن يهتموا بكتابة التاريخ المعاصر للصومال، ولئن كان السابقون معذورين بمعاذير تقبل بعضها ؛ فلا أرى عذرا للمعاصرين في ذلك.
ولنرجع إلى نشر مخبي أخبار الشيخ حسين فري الصومالي الأبسكولي– رحمه الله – كما رويتها عن شيخي المذكور :
الشيخ حسين الملقب بفري – ومعنى اللقب : ذو الأصبع المقطوعة – أحد كبار العلماء الصوماليين الّذين عاشوا في عهد الاحتلال الغربي للصومال ، وعاصروا السيد محمد عبد الله حسن، المناضل والمجاهد الصومالي المشهور.
ينتمي إلى ياسف ( يوسف ) أحد أفخاذ قبيلة أبسكول التي تقطن الغرب الصومالي – المحتل حاليا من قبل ايثيوبيا– وأجزاء من الصومال .
اشتهر بالعلم، والورع، والتقوى، والزهد ، كما اشتهر بصبره في طلب العلم ، وبكراماته المروية عنه ، وقد قال عنه الشيخ عبد الرحمن أفجطي ( af-gudhi ) المجيرتيني– أحد علماء الصومال – : إذا أطلق لفظ ” الشيخ ” فهو الشيخ حسين فري .
ارتحل الشيخ بعد أن أحاط بعلم أهل بلده إلى ” مقديشو ” – عاصمة الصومال الحالية – وكانت مهيعا للعلماء ، ثم رجع إلى بربرة ودرّس فيها، وارتبط به طلاب كثر ( حر/xer ) ، ثم انتقل بين البلاد حتى توفي في مدينة ( طجحبور/ dhagaxbuur ) وبني له قبة على قبره !! ([1]) ، وكان عالم البلاد في عصره .
تتلمذ عليه خلائق لا يحصون منهم شيخ الطريقة الصالحية في مناطق الشمال الشيخ إسماعيل الطلبهنتي ، جدّ الشيخ عمر ( طيري/dheere ) الساكن في مدينة بوهودلى، خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ، وتتلمذ عليه أيضا مقرئ الصومال المشهور الشيخ العالم علي صوفي ، والشيخ عبد الرحمن أفجطيالمجيرتيني، والشيخ الحاج علي تمعسىالأبسكولي ، وكان الأخير هو من يقرأ على الشيخ ، وكان من خواص تلاميذه .
الشيخ حسين والتفاني في طلب العلم ( قصة عجيبة ) :
رحل الشيخ – رحمه الله – كما ذكرنا إلى مدينة مقديشو ليأخذ من علمائها الذين اشتهروا وقتها بالعلم والفقه، وكانت لديه همّة قعساء ، وعزيمة صمّاء في طلب العلم ، وكان – رحمه الله – لا يعرف الفتور والتواني ، ويحذر كل الحذر عن القواطع والعوائق في طريقه ، فقد عرض له كثير من الآباء بناتهم عليه وهو في طلب العلم فرفض واعتذر منهم .
وله قصّة عجيبة في هذا المضمار لو ظفر بها الشيخ أبو غدة لكتبها في صدارة مؤلفه العجاب ” صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل ” ، وهي أنه بعث له رسالة من أهله وهو في مقديشو ، فلم يفض خاتمها خوفا من أن تقطعه عن مواصلة سيره في طلب العلم ، فاستكمل المسيرة لمدة عشرين سنة، والورقة عنده لم يفتحها!!، ولما وصل إلى مطلوبه، ونهل من حياض العلم؛ قرر الرجوع إلى قطره ، وأخرج تلك الورقة ليقرأ ما فيها ، فلم ينته من القراءة إلا وقد علم بأنه الوحيد من بين إخوانه على قيد الحياة، فقد ماتوا جميعا أو قتلوا في إحدى المشاهد !! .
وقد عرف الشيخ – رحمه الله –بالتقوى والورع وطيب النفس وكرمها ، وروي عنه في ذلك حكايات منها : أنه كان لا ينظر إلى النساء أبدا ولو كن زوجات بنيه، ولذلك لم يكن مهتما في أول حياته بأمور الزواج حتى بعد عودته إلى قطره، وكان الباعث على زواجه الأول :
أنه طلب من فتاة أن تحضر له وضوءا ، فأحضرته له وأعطته المُتوضأ صدقة عن أبيها، فأعجبه برها بأبيها، ووقع في روعه أن يتزوج ليترك ولدا يتصدق عنه بعد وفاته.
ويُروى أن إحدى زوجاته كانت شديدة عليه ، فنصحوه بفراقها، فما كان جواب قوله إلا أن قال : دعوها، وليكن ضررها وشدتها علي بدل أن تكون على مؤمن آخر !.
وقالت له يوما – تذمه بالبخل – : أنت رجل قطوع – بمعنى بخيل-، فقال لها مازحا: ما أعلمك باللغة !! ، ومرماه إلى أنها أوردت الوصف على المبالغة .
ومما يذكر عن الشيخ أن مجلسا جمعه مع السيد محمد عبد الله حسن، فسأله الأخير عن قبيلة صومالية كانت ضدّه أكفار هم ؟ فأجاب : بأنه لا يستطيع أن يكفر من قال لا إله إلا الله، من غير وجه حق – وكان رحمه الله محقا فيها -.
ويقال: إن إحدى القبائل اشتكت إلى الشيخ من حشرة الطوج ( dhuug ) وطلبت منه أن يسأل الله لهم أن يبعدهم عنه، فقال لهم: هل تعرفون مكانا لا يوجد فيه مسلم أسأل الله أن يبعد هذه الحشرة عنكم إليهم، فذكروا له اسم قبيلة صومالية !! وكان الشيخ لا يعرف عنها شيئا، وقبلت دعوة الشيخ فهجرت الحشرة إلى أرض القبيلة الأخرى، ولما علموا بالخبر ذهبوا إلى الشيخ واشتكوا له ، وعلم أنه كان مخدوعا !! ، فسأل الله أن يرجع الحشرة إلى مكانها الأصلي فرجعت إليه !!، هكذا يروى عنه ويعد من كراماته ، والله أعلم .
بارك الله للشيخ أهله ، ورزقه بأولاد صالحين، أصبحوا علماء بعده، منهم الشيخ محمد آدم بن الشيخ حسين، وعلي زياد، وعبد الله الكافي، وغيرهم .
وكان يشتغل طوال حياته بالدعوة والتعليم، وخاصة علمي التفسير والفقه، وقد درس الإرشاد لابن المقرئ كثيرا، وهو معروف بصعوبة تراكيبه وغرابة ألفاظه وغموض معانيه.
وأخباره في طلب العلم وتبليغه ، والزهد عن الدنيا، والورع والتقوى، ومعاملة الأهل والأصحاب، كثيرة لم أهتد إليها إلا ما سطرته، فرحمه الله وعفا عنه.
……………………………
الهامش :
- كان اللقاء مع الشيخ عبد الرحمن وسماع قصة الشيخ منه : يوم الخميس 8- سبتمبر – 2016 ، في مجلس المشايخ الصالحية في المسجد الجامع بلاسعانود – شمال الصومال.
([1]) بناء القبة على القبر غير جائز كما هو منصوص قول النبي صلى الله عليه وسلم .