1. بين المُحب المفرط والمبغض المتفحش تضيع الحقيقة ويتلاشى جمال الحِوار، المُحب تُحيط به الهالات التقديسية ويتعامى عن كل ما يفعلُه محبوبه بجامع القَصد الحَسن - وهو بحد ذاته حَسن في موضعه -، والمُبغض أشد منه غلواء في فتكِ بغيضه ولو ارتكب ظَهر الظلم لنيل مُراده.
وعلى هذه القاعدة فلا غلة في إتعاب النفس بالرد والرد الآخر وتضييع القلَم بين مطارق المُناوئين وأَتراس المؤيدين.
2. إن غياب البُعد المفاهيمي والأدب الجَدلي عن النقاشات التي تنشب في الأوساط الفكرية وتنصبّ على الجزئيات - فقط - تُشعر بمدى انحراف البوصلة الحوارية عن الجدية والسعي إلى الحقيقة.
فالدوران حول ( الأخطاء العَرَضية، والمسائل الفروعية الاجتهادية ) وتأبيرها بصبغها بألوان من التحملات والتهكمات والأحكام الفضفاضة التي لا تتحملها المَحالّ؛ إنما هي - في أكثر الأحيان - صورة لتهميش المفاهيم العمُمومية والمبادئ في الإطار الجَدلي.
وقد سببت هذه الحالة تحول الحوار إلى أبعاد أخرى غير البعد المفاهيمي مع قيام الخلاف في المبادئ العامة.
3. هُنا يؤدي هدفُ الأتباع والسيطرة على الساحة الفكرية أو البحث عن محط قدمٍ فيها دورَهُ في التركيز على الأسطح والأهداب، وعدم الالتفات إلى الجدُر والأصول التي ترسِم التوجه الفكري للأفراد والجماعات، إما لغياب البنية المنهجية المكتملة لدى الطرفين أو أحدهما، أو لسهولة القفز إلى قلوب الجمهور المتفرج عن طريقه.
في مثل هذا الحال تَكثُر القراءات المُبتسرة والسطحية، والتغريض الإسقاطي، والدعايات الفارغة، وتضخيم الجزئيات مع اختزال دور الكليات، وتخوين المقاصد، وما يُصاحب ذلك من الأعراض المرضية - المقالية والفعلية - للوصول إلى الهَدف.
هذه الأساليب وإن كانت بعض التوجهات أوفر حظا فيها من غيرهم إلا أنها موجودة في سائر التوجهات الفكرية - المحلية والعالمية - قديما وحديثا.
وليس هدف الأتباع سيئا بذاته - كما يصوره البعض - بل هو هدف إنساني إسلامي سام يدل على حيوية الفكر وإن لم يكن دالا بالضروة على صلاحه، ولا يُلام أحد على البحث عن الأتباع أو السيطرة عليهم وحمايتهم عن الأفكار الدخيلة - حسب رؤيتهم القيمية -، ولكن تُكأة اللوم على الحرص عليه مع اعوجاج الفكرة التي يروجها لهم، وعدم التفاته في حواره إلى تقييم المنظور الفكري - بأسلوب علمي - بعيدا عن الأساليب الطفولية.
الحوار الجاد يقوم على مبدأ البحث عن الحق لا على مبدأ البحث عن الأتباع، فالبحث عنهم مرحلة ثانوية تنتج عن المبدأ الأول، وكلما قوي ارتكاز الحوار - الجدل - على مبدأ الحق قلت التوترات والتغريضات والتخوينات التي أعُدها لازمة أو مترتبة على الثاني.
وهُنا نجد الرؤية الإسلامية حول هذا الأمر واضحة في الأسلوب النبوي للتعامل مع مُخالفيه، فقد كان (ص) حريصاً على إبداء الحقيقة - كما هي - دون تعيير المُخالف لاستنزاف جمهوره، بخلاف الموقف الذي اتخذته قُريش ضده من استهزاء وسب وتعيير للمحافظة على الجمهور واسترجاع أتباعه (ص).
وهذا هو مُرتكز المبدأ الإسلامي القائل بأن الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك.
4. لا شك أن ( العدلَ ) سيكون مكيلا إذا كان القصد مطويا تحت ظَرف (أنا لا هو ) والكيلَ وقتها سيوزع جُزافا بالمجان، ولا غرو في أن ترى (أنا) يتحامل على ( هو ) بالكذب والظلم تارة وبالاستعداء على غيره أخرى، يرمي فيه كل وهم على أنه اليقين، ويستبيح عرضه ودينَه، ويكون لقالِه وفِعاله بالمرصاد!.
ولئن كان هذا الفعل كثيرا في شِيم النفوس فقد جاء القرآن بالنهي عنه في مواضع من القرآن ( ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ).
5. كانت قضية الشيخ أُمل من أواخر ما دار الجدال فيه في وسائل التواصل وخصوصا كلامه عن الوزيرة مريم.
والشيخ أُمل رمزُ التيار السلفي - التيار الأكثر انتشارا في الساحة الصومالية حاليا -، كما أن للتيارات الأخرى رموزا وإن كان هو في المجتمع الصومالي ليس كهم فيه، ولذا فإن المسَاس الإسقاطي من حقه يُعتبر طعنة على ظهر هذا التيار.
وهذا ما يجعله مِحوريا في النقاش بين التيار الإسلامي عموما والتيار العلماني، أو بين التيار السلفي وغيرهم من التيارات الإسلامية.
وهذا ما يشعر به الطرفان عمليا وإن كان بعضهم لا يدركه نظريا ويتساءل عن سبب استهداف أمثاله، فالطعنة على الرأس في سبيل البحث عن الأتباع ليست كالطعنة على سائر الهيكل العظمي.
ولهذا يحرص التيار العلماني المناوئ للسلفي التركيز عليه وعلى أمثالِه، وكذلك سائر التيارات بما فيهم السلفية يركزون على الرؤوس في مثل هذه العملية، فهي أداةٌ ناجحة في غير المجال المفاهيمي، وليس معنى ذلك أني أحصُر مرمى استهدافهم بالإسقاط فقط، فقد يكون الهدف الأعلمية - إذا كان الهادف ذا قصد حسن - وغيره.
6. لم يكن مقصودي تقرير اللفتة السابقة أو الدفاع عن الشيخ محمد في هذه القضية، وإنما نمذجة هذه الحالة في الخواء المفاهيمي الذي تعاني منه كثير من المجادلات التي تنشب بين الفينة والأخرى بين التيارات المُتدافعة في الساحة الفكرية الصومالية، وأيضا مدى الظلم الجُزاف الذي يمارس في مثل هذه القضايا.
وليس فقط قضية الشيخ أُمل يصدق عليها المذكور بل هناك تجليات أخر لقضايا مُشابهة يتكرر فيها نفس الأمر من قبل الأطراف المُختلفة.
7. وبما أن قضية الشيخ أُمل هي المُثارة حاليا فسأقتصر عليها مُبرزا مَاصَدُقات التقرير السابق فيها، ولا بد من التنبيه ثانية : أنني هنا لا أتكلم عن كلام الشيخ هل هو خطأ أم لا ؟ بقدر ما أتكلم عن أمر منهجي أعم من كلامه.
أ- المرحلة التأليفية :
إن قاعدة السياق ودورَها في تحديد الرؤية من الأمور العلمية التي يستصحبها الباحث المُنصف في ميدانَي التقرير والنقد، ولذا كثيرا ما يحاول البحث الهادف - بأنواعه : المقالية والفعلية - جمعَ كل ما يتعلق بالموضوع ليخرج برؤية متكاملة عنه، وهذا يدل على مدى الإنصاف والعدل الذي يتحلى به الباحث.
ولكننا بعكس ذلك نرى أن مُقتطع الفيديو أهمل - وبعمد - جزءا مهما من كلام الشيخ يدل على مقصده أو يخفف من خطأه - إن وُجد - ، وأقول : بعمدٍ؛ لأنه لا يتصور أن يغفل عن هذا الجز المتصل بكلامه، ولكنه لغرض ما أنهى المقطع على ثانية رأى أنها تؤدي المقصود ( = جرح الشيخ ) بغض النظر عن كونها تؤدي إلى ذلك، وهنا يبدأ ( الظلم الجزاف ) بأظهر صُوره، وهو أسلوب قديم يُستخدم في تشويه صورة المُخالف.
وهذا أيضا مثالٌ لما أشرنا إليه من بُعد كثير من الجدل الذي يدور في ساحتنا عن قصد الحقيقة، وإلا فما رَوم صاحبنا في مثل هذا الفعل؟
ب- مرحلة التلقي.
وأيا كان قصد من اقتص الفيديو فقد وصل عملُه إلى مَقليّ وسائل التواصل، حيثُ تبدأ حكاية ( الجدل الزائف )، ولا شك أن محبي الشيخ - وهم الجمهور - تلمسوا له جميع الأعذار لليِّ كلامه عن التحامل أو حمله على الزلة المُغتفرة، بناء على مكانة الشيخ الذي لا يُتصور منه أن يتفوه بما يتحاشى عنه بعض الصغار.
ولكنّ الكلمة التأجيجية هنا كانت للمناوئين الذين تلقوا المقطع على أنه خطأ فادح لا يمكن غض الطرف عنه بالإضافة إلى تشنجات سابقة كانت مكنونة في صدورهم ضده، فبدأت الحملة ضد الشيخ.
لا جرم أين المشكلة هُنا ؟ وما علاقة هذه الممارسات بالظلم الجزاف ؟
في سبيل الدفاع عن الوزيرة التي عرفها بعضُهم بأنها شخصية محُترمة وداعية - وهي كذلك - يلزم الدفاع عنها انخرط في سلك الهجوم الأعمى ضد شخصية محترمة وداعية أخرى !، وهذا يدل على خلل في المعيار الذي يستخدمه في الدفاع.
ثم لم يتكلف عناء الرجوع إلى الكلام الأصلي ليبني ردوده وتحاملاته على هَرم متكامل وواضح، ولكن إذا كانت النفس ذات غرض هانت عندها مثل هذا.
وليس الرجوع إلى الكلام الأصلي لازما في كل حال ولكن في حال من ينتقد ويُقوّل ألزم من اللازم، وإذا كان كلام الفاسق الذي قد يصدُق مُتَثبتا عنه فيكيف بنقل المجهول الذي يبنى على كلامه أسقُق كلامية ( أن تُصيبوا قوما بجهالة ).
وخذ هذه أيضا صورة من ( الظلم الجزاف ).
ج- مرحلة التضخيم
وفي هذه المرحلة يدشن البغض والتعصب مفعوليهما في نفوس الرادين، وذلك بأن يتم إعادة تصنيع الكلام في مصنع فكري خاص، ويعاد تلوينُه أكثر من مرة ليصبح عاما يدخل فيه جميع أفراد التقبيح والتهجين، ومُجملاً يمكن تبيينه بكل ما دار في الخلد من التعيير.
العبارة الواحدة التي خرجت مخرجا بعيدا عن التعيير تصبح ذات دلالة واسعة على انحطاط أخلاق قائله ( بجمع كلمة الأخلاق ) وضيق أفق عقلية المفتي ( و أل هنا للاستغراق ) وجهله بأمور السياسة ( أمور : جمع ) كما أنها تدل على استهجان المفتي للعامة، وغير ذلك من الدلالات ( وليست من الدلالات الأصولية طبعا )، وهذه التوسيعات ليست من وحي خَيالي بل من عبارات بعض الردرود.
في المقابل لا يتفرج محبوا الشيخ هذا الواقع بل يفتحون باب ( الألفاظ الغليظة ) ويُمطرونها على أولئك!.
أظنك - أيها القارئ - كنتَ على ذُكر ( بالظلم الجزاف )، خذ هذه أوسع صوره.
وما البأس لو كان القياس على هذا الأمر جاريا على سَننه ليشمل غير الشيخ من رموز الرادين.
سبق وأن طعن أحدهم في الدين، وآخر في بعض الصحابة، وآخر في جملة كبيرة من علماء المسلمين لكنهم لم يحركوا ساكنا، ولم يعلق أحد منهم على ذلك ولو بالقول بأنه خطأ، مع أن بعض محبي الشيخ محمد قالوا بأن مقولة الشيخ خطأ تحتاج إلى اعتذار، وهكذا بعض المقولات العَرضية السابقة للشيخ محمود شبلي المشابهة لهذه القضية !.
إذاً ما معنى أن يقيم الدنيا بطعن الشيخ لوزيرة - إن سلمنا بأنه طعن - !، القضية ليست قضية دفاع عن وزيرة وانتصار للأخلاق بقدر ما هي قضية إرادة إسقاط وتشويه للشيخ.
ثم هو نفسُه اعتدى وتطاول على ( شخصية محترمة ) بألفاظ نابية غير أخلاقية فماذا يكون حالُه ؟ إذا كان ذاك الشيخ سقطت كل أخلاقه بسبب قول - يمكن اعتباره خطأ على أكثر الأحوال - مع الجزم بأن مقصده ليس كما يدعيه هذا الراد، فما حال من يخوّن ويجهّل ويسب ويقذع القول في ( شخصية محترمة ) ؟
ألم أقل لك بأن ( الصوت أكبر من التيس ).
إذا كانت النقاشات الدائرة بيننا مثل هذا النوع فأين مكمن التقرير المفاهيمي فيها ؟ ألم تروا معي بأنها نقاشات للسيطرة لا للحق والحقيقة - أيا كان المستدرِج أو المستدرَج - ؟.
الأغرب أن بعض من تمادى في القول على الشيخ بغير علم بأن المقطع مُجتزأ لم يستطع الاعتذار عن إطلاقاته السابقة في حق الشيخ وبدأ يتمسك بجزء من كلام الشيخ يجردها عن سباقه ولحاقه!، والمفارقة أنه ما زال يكرر بأن على الشيخ الاعتذار للوزيرة، طيب، وسبابك الصريح في مقام من هو أعلى منك قدرا ؟
أنا أعلم بطعم الهزيمة المُرة في الجدل ، ولكنها لم تكن مُرة إلا لأن الجدل على الأساس كان لقصد غير صحيح - أو غير لائق على أقل الأحوال -.
وما قضية الشيخ أُمل إلا واحدة من نماذج كثيرة نتعامل معها بنفس الأسلوب، ولجميع التيارات حظ منها.
محمد برى علي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق