مدونة المعرفة والتأصيل

مدونة المعرفة والتأصيل

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

المولد النبوي •• وسؤالات المقلدين الجدد




١- (ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي ؟ ) أحد أهم الأسئلة الكلاسيكية الموسمية التي تُتداول بشكل واسع في الوَسط الإسلامي مذ تم اختراعه من قبل الفاطميين، فقد أصبح الاستعداد الجدلي له قبل حلوله جزءا من قائمة المُستلزمات الأولية لحفلاته في سائر البقاع الإسلامية - والغربية مؤخرا -، يُستثار له مكنون الأدلة والفتاوى، وتُستقرأ له المؤلفات عنه بطابع نمطي مكرر، ما قد يجعله حدثا مهما يلفت الأنظار مثل سائر المواسم الأخرى.
هذا التداول العريض يُفسر إشكالية تعدد المؤلفات حول هذه المسألة الجزئية التي أربت على خمسين مؤلفا، شارك فيها كثير من العلماء المعروفين في الحقل التأليفي.

وقد زادت وسائل التواصل الحديثة الخلاف فيه استعارا وتأججا، حيث شارك في تحليله والنقاش فيه العامةُ مع الخاصة، وانتقل النقاش فيه - في كثير من الأحيان - إلى مناوشات خطابية بعيدة عن الحِجاج العلمي، وهذا مآل الخارج عن أنامل أهله.

٢- إن لسؤال الماهية في نظري أهمية عظمى لضبط مسار النقاش، وتصحيح التصورات المنعرجة عنه، ولا تقل أهميتها عن أهمية تحديد حكمه التكليفي، وبقدر استحضار هذه النقطة في هذه الجزئية وفي غيرها من الجزئيات المضارعة؛ ينضبط الحوار، ويسيرُ على جادّته وإن لم يلتئم الجُرح الذي أحدثه؛ والتئامُه ليس شرطا في كل حال.
 فما هو نوع الخلاف في هذه المسألة ؟
يتضح من استقراء الرؤى المتباينة حول المسألة اتفاقهم على أنها ليست من أصول العقائد ولا من أصول العبادات بل تدور حول ( الفروعية ) عبادة كانت أو عادة، ويمكن تلمس هذا المعنى في كلام كل من ابن تيمية ( المنكر ) والسيوطي ( المجيز ) وغيرهما، وهو مرتكز على الخلاف في مفهوم ( البدعة )، وتصور هذا الأمر هو بحد ذاته مما يخفف حدة الخلاف، ويرسم حدود النقاش، بغض النظر عن القضايا المصاحبة للذكرى التي وقع الخلاف فيها أيضا.

٣- وبما أن النقاش في تلك القضايا قد أخذ حيزا كبيرا من الطرفين فسآخذ بُعداً آخر في تصوير المسألة من خلال الجواب عن سؤالات ( المقلدين الجدد ) أو مقلدي الغرب كما أطلق عليهم المفكر المغربي طه عبد الرحمن في كتابه ( روح الحداثة ) :
[ لماذا يركز العقل الإسلامي على مناقشات ثانوية مثل المولد، وتقل مناقشاته في قضايا أخرى محورية؟ وخاصة مع اعترافهم بفروعية هذه المسألة ؟
ألا يدل ذلك على سطحية العقل الواقعي للمتدينين ؟
أوليس أمارة واضحة للرجعية التي يعاني منها الإسلاميون بشكل عام ؟ ]

٤- في مثل هذا الموقف يحسُن استصحاب أثر التصورات الأولية عن الغير في السؤالات والمناقشات اللاحقة ، تلك التصورات التي قد يقتضي تسليطها على ما بعدها التجردَ عن الموضوعية.
فمن برمَج في عقله أن فلانا مثلا مخبول أو بخيل أو جبان فإنه يتعامل مع مواقفه غالبا تحت تأثير التصور السابق إلا ما يُدخله في خزانة الاستثناءات الضيقة.
وهكذا العقل المُبرمج برجعية بعض الطوائف أو كونها مدفوعة من الغرب يستسلف هذه التصورات - من اللاواعي - لتفسير مواقفه ورُؤاه.
ولهذا يسهل أن ترى مثل هذه الإرجاعات في الخطابات المختلفة، ليس فقط في الخطاب الديني بل في سائر الخطابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وبحسب صحة تلك التصورات السابقة يكون التفسير اللاحق أقرب إلى الواقع.

٥- إذا استوعبت الفقرة السابقة لم تكن بحاجة إلى فكّ وصف الرجعية عن الخلاف في المولد، لأن إناطة مثل هذه الأوصاف في كل خلاف يخطر في البال عدمُ صلاحيته عملية سهلة وغير علمية أيضا.

إن اشتهار خلاف ما راجعٌ إلى سبب يقتضيه مثل :
أ- ( نوع المسألة ) فقد يشتهر الخلاف فيها لمركزيتها وعمق الخلاف فيها كالخلاف في وجود الله بين المؤلهين والملحدين، والخلاف في نبوة محمد بين المسلمين وأهل الكتاب، والخلاف في صحة الكتب المنزلة بينهم، والخلاف في البعث مع مشركي العرب قديما، والخلاف في العلو بين المثبتة والمعطلة ونحوها.

ب- ( شهرة محل الخلاف ) ككونه فعلا أو سلوكا ظاهرا مشاعا فيكون له من الذيوع والانتشار ما لأصله من الظهور في الخارج، والجزئيات الجارية على هذا السَنن كثيرة.
الموسيقى مثلا يعد الخلاف فيها - وهي فرعية - أشهر من الخلاف في كثير من المسائل المعرفية والوجودية والأصولية مع كونها أهم منها.
والاشتهار أمرٌ نسبي، تختلف حُدوده كما لا يخفى.

ج- ( النوطُ بالأوصاف المُفسّقة ) كالبدعة والشرك، فإذا انضاف إلى شهرة المحل تعليقُه بهذه الأوصاف ازدادت حدة الخلاف فيه.

وكلما كان الفعلُ أقرب إلى النظر والقولُ إلى الذهن والعلمُ إلى الفهم كان الخلاف فيه أشهر غالبا، وكذا العكس، فلا يخضع ذيوع الخلاف للأولوِية دائما، وهذا أمر ملاحَظ في خلافات الجنس البشري عموما.
فمن الغباء المُطالبة بالسحب المطلق لمثل هذا النوع من الخلاف في الجزئيات الذائعة، والاشتغال بقضايا الأمة الجوهرية وذلك لوجهين :
١- أن سحبه يتطلب أحد أمرين : الاتفاق وإزالة الخلاف أو تقليل شهرة المحل، والأول يتطلب إقناع أحد الطرفين بالتنازل وهو صعب المنال، والثاني لا يخضع لهوى المريد بل لفرض الواقع.
٢- أن قضايا الأمة شُغل كثير من أطراف النقاش السابق، ولم تُثنِهم المُشاركة في مثل هذه القضية الجزئية عن الاهتمام بالقضايا الكلية.

والحلّ - في نظري - يكمُن في تنزيل الخلاف منزلتَه، وعدم الانصياع للآثار السلبية المُنعكسة عن ذيوعه وشهرته، هذا إذا كان لجَريانه مسوغ شرعي وعقلي، أما إذا تجرد عن المسوغات فلا محلّ له أبدا.

٦- الخلاف في المولد النبوي وإن كان خلافا فُروعيا لكنّه يكتسب شُهرته من البندين الثاني والثالث ( من أسباب اشتهار الخلاف )، فارتباطُه بفعلِ تقربٍ ظاهر متكرر موصوف بالكراهة والبدعة من الطرف المنكر يؤدي إلى ذيوع الخلاف فيه، وليس لعُمق المسألة أو لخلل عقليّة المُتناقشِين.
 كما أن الخلاف فيها ليس فضوليا بل هو خلافٌ علمي في مسألة مهمة ترتبط بتحقيق العبادة والاتباع - وهما من المبادئ الإسلامية العظيمة -، ولا تعارض بين كونها فروعية خلافية وبين وصفها بالبدعة كما قد يتصوره بعض من لم يفهم العلاقة بين هذه الأوصاف.

٧- مَعقِد الكلام التنبيهُ على مثل تلك الأسئلة والأوصاف التي تهدف إلى زعزعة الثقة بالنفس والمنهج، وتحيد بالمرء عن مساره العلمي الصحيح.
وقد رأيت بعض الشباب أودى به الخوف عن إلصاقه بالرجعية والتعصب إلى نوع من التكاسل عن المسائل العلمية، والتنازل عن بعض المفاهيم المنهجية.
وسبق أن أشار إلى مثل هذا الأمر بكلام مقتضب بديع محدّث مِصر أحمد شاكر في جمهرة المقالات حيث قال :
 «إِنَّ أُوربةَ لم تتمكن من دول الإسلام فِي فَتَرَةِ ضَعفِهِم إلاَّ حِين أَرهبتهم بـ(غُول التعصب)!
حتى صار كُلُّ مسلم يتخاذل عن دينه وَعن شَريعتهِ خشية أَن يُتهم بـ (التَّعصب)!!».

والحمد لله أولا وآخرا







الأحد، 19 نوفمبر 2017

العدل المَكيل والظُلم الجُزاف [ قضيّة الشيخ أُمَل وتَجلياتٌ أُخَر ]



1. بين المُحب المفرط والمبغض المتفحش تضيع الحقيقة ويتلاشى جمال الحِوار، المُحب تُحيط به الهالات التقديسية ويتعامى عن كل ما يفعلُه محبوبه بجامع القَصد الحَسن - وهو بحد ذاته حَسن في موضعه -، والمُبغض أشد منه غلواء في فتكِ بغيضه ولو ارتكب ظَهر الظلم لنيل مُراده.
وعلى هذه القاعدة فلا غلة في إتعاب النفس بالرد والرد الآخر وتضييع القلَم بين مطارق المُناوئين وأَتراس المؤيدين.

2. إن غياب البُعد المفاهيمي والأدب الجَدلي عن النقاشات التي تنشب في الأوساط الفكرية وتنصبّ على الجزئيات - فقط - تُشعر بمدى انحراف البوصلة الحوارية عن الجدية والسعي إلى الحقيقة.
فالدوران حول ( الأخطاء العَرَضية، والمسائل الفروعية الاجتهادية ) وتأبيرها بصبغها بألوان من التحملات والتهكمات والأحكام الفضفاضة التي لا تتحملها المَحالّ؛ إنما هي - في أكثر الأحيان - صورة لتهميش المفاهيم العمُمومية والمبادئ في الإطار الجَدلي.
وقد سببت هذه الحالة تحول الحوار إلى أبعاد أخرى غير البعد المفاهيمي مع قيام الخلاف في المبادئ العامة.

3. هُنا يؤدي هدفُ الأتباع والسيطرة على الساحة الفكرية أو البحث عن محط قدمٍ فيها دورَهُ في التركيز على الأسطح والأهداب، وعدم الالتفات إلى الجدُر والأصول التي ترسِم التوجه الفكري للأفراد والجماعات، إما لغياب البنية المنهجية المكتملة لدى الطرفين أو أحدهما، أو لسهولة القفز إلى قلوب الجمهور المتفرج عن طريقه.
في مثل هذا الحال تَكثُر القراءات المُبتسرة والسطحية، والتغريض الإسقاطي، والدعايات الفارغة، وتضخيم الجزئيات مع اختزال دور الكليات، وتخوين المقاصد، وما يُصاحب ذلك من الأعراض المرضية - المقالية والفعلية - للوصول إلى الهَدف.
هذه الأساليب وإن كانت بعض التوجهات أوفر حظا فيها من غيرهم إلا أنها موجودة في سائر التوجهات الفكرية - المحلية والعالمية - قديما وحديثا.
وليس هدف الأتباع سيئا بذاته - كما يصوره البعض - بل هو هدف إنساني إسلامي سام يدل على حيوية الفكر وإن لم يكن دالا بالضروة على صلاحه، ولا يُلام أحد على البحث عن الأتباع أو السيطرة عليهم وحمايتهم عن الأفكار الدخيلة - حسب رؤيتهم القيمية -، ولكن تُكأة اللوم على الحرص عليه مع اعوجاج الفكرة التي يروجها لهم، وعدم التفاته في حواره إلى تقييم المنظور الفكري - بأسلوب علمي - بعيدا عن الأساليب الطفولية.
الحوار الجاد يقوم على مبدأ البحث عن الحق لا على مبدأ البحث عن الأتباع، فالبحث عنهم مرحلة ثانوية تنتج عن المبدأ الأول، وكلما قوي ارتكاز الحوار - الجدل - على مبدأ الحق قلت التوترات والتغريضات والتخوينات التي أعُدها لازمة أو مترتبة على الثاني.
وهُنا نجد الرؤية الإسلامية حول هذا الأمر واضحة في الأسلوب النبوي للتعامل مع مُخالفيه، فقد كان (ص) حريصاً على إبداء الحقيقة - كما هي - دون تعيير المُخالف لاستنزاف جمهوره، بخلاف الموقف الذي اتخذته قُريش ضده من استهزاء وسب وتعيير للمحافظة على الجمهور واسترجاع أتباعه (ص).
وهذا هو مُرتكز المبدأ الإسلامي القائل بأن الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك.

4. لا شك أن ( العدلَ ) سيكون مكيلا إذا كان القصد مطويا تحت ظَرف (أنا لا هو ) والكيلَ وقتها سيوزع جُزافا بالمجان، ولا غرو في أن ترى (أنا) يتحامل على ( هو ) بالكذب والظلم تارة وبالاستعداء على غيره أخرى، يرمي فيه كل وهم على أنه اليقين، ويستبيح عرضه ودينَه، ويكون لقالِه وفِعاله بالمرصاد!.
ولئن كان هذا الفعل كثيرا في شِيم النفوس فقد جاء القرآن بالنهي عنه في مواضع من القرآن ( ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ).

5. كانت قضية الشيخ أُمل من أواخر ما دار الجدال فيه في وسائل التواصل وخصوصا كلامه عن الوزيرة مريم.
والشيخ أُمل رمزُ التيار السلفي - التيار الأكثر انتشارا في الساحة الصومالية حاليا -، كما أن للتيارات الأخرى رموزا وإن كان هو في المجتمع الصومالي ليس كهم فيه، ولذا فإن المسَاس الإسقاطي من حقه يُعتبر طعنة على ظهر هذا التيار.
وهذا ما يجعله مِحوريا في النقاش بين التيار الإسلامي عموما والتيار العلماني، أو بين التيار السلفي وغيرهم من التيارات الإسلامية.
وهذا ما يشعر به الطرفان عمليا وإن كان بعضهم لا يدركه نظريا ويتساءل عن سبب استهداف أمثاله، فالطعنة على الرأس في سبيل البحث عن الأتباع ليست كالطعنة على سائر الهيكل العظمي.
ولهذا يحرص التيار العلماني المناوئ للسلفي التركيز عليه وعلى أمثالِه، وكذلك سائر التيارات بما فيهم السلفية يركزون على الرؤوس في مثل هذه العملية، فهي أداةٌ ناجحة في غير المجال المفاهيمي، وليس معنى ذلك أني أحصُر مرمى استهدافهم بالإسقاط فقط، فقد يكون الهدف الأعلمية - إذا كان الهادف ذا قصد حسن - وغيره.

6. لم يكن مقصودي تقرير اللفتة السابقة أو الدفاع عن الشيخ محمد في هذه القضية، وإنما نمذجة هذه الحالة في الخواء المفاهيمي الذي تعاني منه كثير من المجادلات التي تنشب بين الفينة والأخرى بين التيارات المُتدافعة في الساحة الفكرية الصومالية، وأيضا مدى الظلم الجُزاف الذي يمارس في مثل هذه القضايا.
وليس فقط قضية الشيخ أُمل يصدق عليها المذكور بل هناك تجليات أخر لقضايا مُشابهة يتكرر فيها نفس الأمر من قبل الأطراف المُختلفة.

7. وبما أن قضية الشيخ أُمل هي المُثارة حاليا فسأقتصر عليها مُبرزا مَاصَدُقات التقرير السابق فيها، ولا بد من التنبيه ثانية : أنني هنا لا أتكلم عن كلام الشيخ هل هو خطأ أم لا ؟ بقدر ما أتكلم عن أمر منهجي أعم من كلامه.

أ- المرحلة التأليفية :
إن قاعدة السياق ودورَها في تحديد الرؤية من الأمور العلمية التي يستصحبها الباحث المُنصف في ميدانَي التقرير والنقد، ولذا كثيرا ما يحاول البحث الهادف - بأنواعه : المقالية والفعلية - جمعَ كل ما يتعلق بالموضوع ليخرج برؤية متكاملة عنه، وهذا يدل على مدى الإنصاف والعدل الذي يتحلى به الباحث.
ولكننا بعكس ذلك نرى أن مُقتطع الفيديو  أهمل - وبعمد - جزءا مهما من كلام الشيخ يدل على مقصده أو يخفف من خطأه - إن وُجد - ، وأقول : بعمدٍ؛ لأنه لا يتصور أن يغفل عن هذا الجز المتصل بكلامه، ولكنه لغرض ما أنهى المقطع على ثانية رأى أنها تؤدي المقصود ( = جرح الشيخ ) بغض النظر عن كونها تؤدي إلى ذلك، وهنا يبدأ ( الظلم الجزاف ) بأظهر صُوره، وهو أسلوب قديم يُستخدم في تشويه صورة المُخالف.
وهذا أيضا مثالٌ لما أشرنا إليه من بُعد كثير من الجدل الذي يدور في ساحتنا عن قصد الحقيقة، وإلا فما رَوم صاحبنا في مثل هذا الفعل؟

ب- مرحلة التلقي.
وأيا كان قصد من اقتص الفيديو فقد وصل عملُه إلى مَقليّ وسائل التواصل، حيثُ تبدأ حكاية ( الجدل الزائف )، ولا شك أن محبي الشيخ - وهم الجمهور - تلمسوا له جميع الأعذار لليِّ كلامه عن التحامل أو حمله على الزلة المُغتفرة، بناء على مكانة الشيخ الذي لا يُتصور منه أن يتفوه بما يتحاشى عنه بعض الصغار.
ولكنّ الكلمة التأجيجية هنا كانت للمناوئين الذين تلقوا المقطع على أنه خطأ فادح لا يمكن غض الطرف عنه بالإضافة إلى تشنجات سابقة كانت مكنونة في صدورهم ضده، فبدأت الحملة ضد الشيخ.
لا جرم أين المشكلة هُنا ؟ وما علاقة هذه الممارسات بالظلم الجزاف ؟
في سبيل الدفاع عن الوزيرة التي عرفها بعضُهم بأنها شخصية محُترمة وداعية - وهي كذلك - يلزم الدفاع عنها انخرط في سلك الهجوم الأعمى ضد شخصية محترمة وداعية أخرى !، وهذا يدل على خلل في المعيار الذي يستخدمه في الدفاع.
ثم لم يتكلف عناء الرجوع إلى الكلام الأصلي ليبني ردوده وتحاملاته على هَرم متكامل وواضح، ولكن إذا كانت النفس ذات غرض هانت عندها مثل هذا.
وليس الرجوع إلى الكلام الأصلي لازما في كل حال ولكن في حال من ينتقد ويُقوّل ألزم من اللازم، وإذا كان كلام الفاسق الذي قد يصدُق مُتَثبتا عنه فيكيف بنقل المجهول الذي يبنى على كلامه أسقُق كلامية ( أن تُصيبوا قوما بجهالة ).
وخذ هذه أيضا صورة من ( الظلم الجزاف ).

ج- مرحلة التضخيم
وفي هذه المرحلة يدشن البغض والتعصب مفعوليهما في نفوس الرادين، وذلك بأن يتم إعادة تصنيع الكلام في مصنع فكري خاص، ويعاد تلوينُه أكثر من مرة ليصبح عاما يدخل فيه جميع أفراد التقبيح والتهجين، ومُجملاً يمكن تبيينه بكل ما دار في الخلد من التعيير.
العبارة الواحدة التي خرجت مخرجا بعيدا عن التعيير تصبح ذات دلالة واسعة على انحطاط أخلاق قائله ( بجمع كلمة الأخلاق ) وضيق أفق عقلية المفتي ( و أل هنا للاستغراق ) وجهله بأمور السياسة ( أمور : جمع ) كما أنها تدل على استهجان المفتي للعامة، وغير ذلك من الدلالات ( وليست من الدلالات الأصولية طبعا )، وهذه التوسيعات ليست من وحي خَيالي بل من عبارات بعض الردرود.
في المقابل لا يتفرج محبوا الشيخ هذا الواقع بل يفتحون باب ( الألفاظ الغليظة ) ويُمطرونها على أولئك!.
أظنك - أيها القارئ - كنتَ على ذُكر ( بالظلم الجزاف )، خذ هذه أوسع صوره.
وما البأس لو كان القياس على هذا الأمر جاريا على سَننه ليشمل غير الشيخ من رموز الرادين.
سبق وأن طعن أحدهم في الدين، وآخر في بعض الصحابة، وآخر في جملة كبيرة من علماء المسلمين لكنهم لم يحركوا ساكنا، ولم يعلق أحد منهم على ذلك ولو بالقول بأنه خطأ، مع أن بعض محبي الشيخ محمد قالوا بأن مقولة الشيخ خطأ تحتاج إلى اعتذار، وهكذا بعض المقولات العَرضية السابقة للشيخ محمود شبلي المشابهة لهذه القضية !.
إذاً ما معنى أن يقيم الدنيا بطعن الشيخ لوزيرة - إن سلمنا بأنه طعن - !، القضية ليست قضية دفاع عن وزيرة وانتصار للأخلاق بقدر ما هي قضية إرادة إسقاط وتشويه للشيخ.
ثم هو نفسُه اعتدى وتطاول على ( شخصية محترمة ) بألفاظ نابية غير أخلاقية فماذا يكون حالُه ؟ إذا كان ذاك الشيخ سقطت كل أخلاقه بسبب قول - يمكن اعتباره خطأ على أكثر الأحوال - مع الجزم بأن مقصده ليس كما يدعيه هذا الراد، فما حال من يخوّن ويجهّل ويسب ويقذع القول في ( شخصية محترمة ) ؟
ألم أقل لك بأن ( الصوت أكبر من التيس ).
إذا كانت النقاشات الدائرة بيننا مثل هذا النوع فأين مكمن التقرير المفاهيمي فيها ؟ ألم تروا معي بأنها نقاشات للسيطرة لا للحق والحقيقة - أيا كان المستدرِج أو المستدرَج - ؟.

الأغرب أن بعض من تمادى في القول على الشيخ بغير علم بأن المقطع مُجتزأ لم يستطع الاعتذار عن إطلاقاته السابقة في حق الشيخ وبدأ يتمسك بجزء من كلام الشيخ يجردها عن سباقه ولحاقه!، والمفارقة أنه ما زال يكرر بأن على الشيخ الاعتذار للوزيرة، طيب، وسبابك الصريح في مقام من هو أعلى منك قدرا ؟
أنا أعلم بطعم الهزيمة المُرة في الجدل ، ولكنها لم تكن مُرة إلا لأن الجدل على الأساس كان لقصد غير صحيح - أو غير لائق على أقل الأحوال -.

وما قضية الشيخ أُمل إلا واحدة من نماذج كثيرة نتعامل معها بنفس الأسلوب، ولجميع التيارات حظ منها.

محمد برى علي

الاثنين، 6 نوفمبر 2017

شرحُ العمد المطبوع .. القول في النسبة


يستمد ( شرح العُمد ) لأبي الحسين البصري (ت426ه) أهميته من المتن المشروح (= العُمد للقاضي عبد الجبار المعتزلي ت 415ه) أحدِ الركائز الرئيسة في المدونات الأصولية، وقد شرحه في حياة شيخه إلا أنّه لم يكتسب القيمة التي اكتسبها كتابه الآخر : ( المُعتمد ) لأسباب ذكر بعضها في مقدمة المُعتمد.
ولم يُعثر على عُمد القاضي كشرحه لأبي الحُسين إلا أجزاء نشرها د. عبد الحميد أبو زنيد عام (1410ه) في مجلدين باسم ( شرح العُمد ) ونسبها إلى أبي الحسين.
وقد اشتهر الكتاب المطبوع ووجد طريقَه إلى ذروة البيت الأصولي نظراً لمكانة الماتن والشارح، ولكونه النسخة الوحيدة التي عُثر عليها حتى الآن من الكتابين ( المتن والشرح )، وهي غير كاملة - بغض النظر عن صحة النسبة -، ولهذا قلّ أن تجد كتابا أصوليا يخلو ثبت مراجعه عنه.
ومع هذه المكانة التي تبوأها الكتابُ - غير المكتمل - إلا أن النّسخة المطبوعة المنسوبة إلى أبي الحُسين تكتنفها عدة شكوك تقتضي نفي الكتاب – المطبوع – عن أبي الحُسين فقط أو عنه وعن شيخه القاضي أيضا، وذلك كالتالي :
1: لا شك أنّ لأبي الحُسين البصري شرحاً على عُمد شيخه، فقد نصّ عليه في كتابه المُعتمد ( 1/7 و 2/81 ) وذكر الفروق بين ( الشرح ) و ( المعتمد) – وهذا يسقط توهّم من جعل المعتمد شرحا للعمد أو اختصارا له -، ونسبَ الشرحَ له جمعٌ من الأصوليين كالجويني في البرهان والتلخيص، والقرافي في النفائس، والزركشي في البحر والأسنوي في النهاية وغيرهم.
2: القاضي عبد الجبّار صاحبُ ( العُمد ) ولا كلام في هذا، ولكن هل له شرحٌ على كتابه؟
شكك في ذلك محقق شرح العمد ( أبو زنيد ) 1/42، وقال: ( قد أحال تلميذُه أبو الحُسين في كتابه المُعتمد في ما يقارب الأربعين موضعاً بقوله قال قاضي القضاة في الشرح، واعتمد محقق المعتمد على ذلك في إثبات كتاب له يسمى شرح العمد، ولعل قول تلميذه قال في الشرح يريد به في شرحه له، لأنه تلميذُه ).
ولكن هذا التشكيك غير مقبول فنصوص أبي الحُسين واضحة في إثبات شرحين – له ولشيخه -، فيقول عن شرحه: (وقد ذكرناه في الشرح للعمد ) 2/88، [ دار الكتب العلمية ]، وعن شرح شيخه: (وقد اختاره في الشرح وفي كتاب النهاية) 2/232، ومن أصرح نصوصه : (وذكر قاضي القضاة في العمد أنه يصح أن يعتقد الإنسان إثبات الحكم ونفيه وكون العبادة واجبة ومستحبة وكون الفعل حسنا وقبيحا كل ذلك على البدل ومنع في الشرح من دخول التخيير بين المستحب والمباح قال لأن لأحدهما مدخلا في التعبد دون الآخر ) 2/310.
ونسبَ الشرحَ للقاضي أيضاً الجُويني في التلخيص 1/376 والبرهان 1/68، ومن الباحثين وائل الحارثي في علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق 330، ومع ذلك فإنّ هذا الشرح للقاضي عزيز الذكر في كتب الأصول والتراجم.
وليس إثبات الشرحين بمحلّ إشكال كبير بل الإشكال كامنٌ في نسبة المطبوع إليهما والسبب :
3- أنّ المحقق ( أبو زنيد ) اعتمد على نسخة وحيدة، مبتورة الأول والآخر، لا يوجد فيها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، تردد مفهرس مكتبة الفاتيكان ( مصدر النسخة ) في تسميته بين ثلاثة أسماء ( الخلاف بين الشيخين، الاختلاف في أصول الفقه، العمد ) فلا ذكر لشرح العُمد في تسميته، وزيادة على ذلك فقد نسبَه إلى القاضي عبد الجبار، ولكن المُحقق بعد قراءات ومُقارنات جزم – باجتهاده – أن الكتاب لأبي الحُسين!.
وأهمّ ما دعَم به موقفَه :
أ- ورود لفظ ( قاضي القضاة ) في الكتاب في موضع واحد، وهو دال على أن الكتاب لغير قاضي القضاة عبد الجبار.
ب- ابتداء مسائل الكتاب ( بقال )، مما يدل على أن الكتاب لا ينتمي لشخص واحد.
4- نسب وائل الحارثي هذا الشرح المطبوع إلى القاضي عبد الجبار في ( علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق 329 )، مُحتجاً بـ :
أ- إثبات أبي الحُسين أن لشيخه شرحاً على العُمد – وتقدّم -.
ب- عدم وجود أي عبارة أو أسلوب للتفريق بين كلام الماتن والشارح، مما يدل على أنه للمؤلف نفسه.
ج- اختلاف منهج المعتمد عن منهج هذا الشرح المنسوب لأبي الحسين في منهجية التقسيمات في العرض والتقرير، والعزوِ، وتتبع أقوال أبي عبد الله البصري، مع وصف صاحب شرح العُمد لأبي عبد الله البصري ( بشيخنا ) وإنما هو شيخ القاضي.
والحصر الثنائي للاحتمالات الواردة في مؤلف الكتاب جعلت تضعيف نسبة الكتاب لأحدهما مُستلزماً لثبوته للآخر، فلم يتكلف الباحثان عناء البحث عن احتمالات أخرى لتحديد شخصيّة المؤلف.
5- في عام 1434ه – أي بعد ظهور كتابي أبي زنيد والحارثي - انضمّ إلى الركب الأصولي المطبوع كتابٌ لأحد أئمة الزيديّة : الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني(ت 424ه)، بتحقيق د. عبد الكريم جدبان، واسمُه " المجزي في أصول الفقه"، والمؤلّف عصريّ القاضي عبد الجبار ( شيخِه ) وتلميذه أبي الحُسين ( قرينِه ).
وقد لفتَ المحققُ الأنظار حين ذكر أنّ ما طُبع باسم ( شرح العُمد لأبي الحسين البصري ) بتحقيق أبي زنيد إنّما هو جزءٌ ( ثلث تقريبا ) من كتاب المجزي للهاروني، قال في 1/69 :" وقد طابقت الكتاب [ المجزي ] مع هذا الجزء المنشور [ شرح العُمد، ت: أبو زنيد ] كلمة بكلمة، فوجدتُه هو هو لا يختلف إلّا كاختلاف نسخة (أ)، و (ب)، لا غير. "، وانتقد حجج أبي زنيد.
ويظهر أيضاً بعد النّظر في الجزء الأول من المجزي للهاروني التشابه الأسلوبي والمنهجي بينه وبين الجزء المطبوع باسم شرح العمد، وهذا يوحي إلى كون المؤلف واحداً.
ولئن تطابق منشور أبي زنيد مع كتاب المجزي بتنصيص المحقق فإنّ نسبته إلى الهاروني تسلم من الإشكالات التي يوردها الطرفان الآخران :
- فلا غرابة في ورود لفظ ( قاضي القضاة ) في الكتاب؛ لأنّ الهاروني تلميذ القاضي عبد الجبار كأبي الحُسين.
- وورود ( قال ) في بعض المواضع لا تدلّ على التغاير من وجه، لأنّها تحتمل أن تكون من عند النساخ، مع عدم تمايز ما بعدها بعضه عن بعض كأساليب الشروح المعروفة، بل يرِد في نَسق واحد يُشعر كونَه لمؤلف واحد، وهو ما جزم به الحارثي.
- وإثبات أبي الحُسين أنّ لشيخه شرحاً على العُمد لا يقتضي بالضرورة أن يكون هو هذا المطبوع.
- وعدم وجود أي عبارة أو أسلوب للتفريق بين كلام الماتن والشارح، يضعف احتمالية كونه لأبي الحُسين، ويبقى الهاروني والقاضي، ولا يمكن نسبته إلى القاضي لما ذكرناه، فبقي الهاروني، وكذا يقال في اختلاف منهج المعتمد عن منهج هذا الشرح المنسوب لأبي الحسين، فهو جزء من كتاب الهاروني وليس لأبي الحُسين.
- وأما وصف صاحب شرح العُمد لأبي عبد الله البصري ( بشيخنا )، فلا إشكال فيه لأن أبا عبد الله الحُسين بن علي المشهور بالجُعل (ت 369ه) شيخُ الهاروني مع كونه شيخ القاضي، فاشتركا في الأخذ عنه، ولم تذكر المصادر تتلمذ أبي الحُسين عليه.
وعلى هذا فالمُترجّح أنّ ( شرح العمد ) المطبوع بتحقيق عبد الحميد أبي زنيد [ مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة – الطبعة الأولى 1410 ه ) جزء من كتاب الإمام الهاروني ( المجزئ في أصول الفقه )، والله أعلم.