١- (ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي ؟ ) أحد أهم الأسئلة الكلاسيكية الموسمية التي تُتداول بشكل واسع في الوَسط الإسلامي مذ تم اختراعه من قبل الفاطميين، فقد أصبح الاستعداد الجدلي له قبل حلوله جزءا من قائمة المُستلزمات الأولية لحفلاته في سائر البقاع الإسلامية - والغربية مؤخرا -، يُستثار له مكنون الأدلة والفتاوى، وتُستقرأ له المؤلفات عنه بطابع نمطي مكرر، ما قد يجعله حدثا مهما يلفت الأنظار مثل سائر المواسم الأخرى.
هذا التداول العريض يُفسر إشكالية تعدد المؤلفات حول هذه المسألة الجزئية التي أربت على خمسين مؤلفا، شارك فيها كثير من العلماء المعروفين في الحقل التأليفي.
وقد زادت وسائل التواصل الحديثة الخلاف فيه استعارا وتأججا، حيث شارك في تحليله والنقاش فيه العامةُ مع الخاصة، وانتقل النقاش فيه - في كثير من الأحيان - إلى مناوشات خطابية بعيدة عن الحِجاج العلمي، وهذا مآل الخارج عن أنامل أهله.
٢- إن لسؤال الماهية في نظري أهمية عظمى لضبط مسار النقاش، وتصحيح التصورات المنعرجة عنه، ولا تقل أهميتها عن أهمية تحديد حكمه التكليفي، وبقدر استحضار هذه النقطة في هذه الجزئية وفي غيرها من الجزئيات المضارعة؛ ينضبط الحوار، ويسيرُ على جادّته وإن لم يلتئم الجُرح الذي أحدثه؛ والتئامُه ليس شرطا في كل حال.
فما هو نوع الخلاف في هذه المسألة ؟
يتضح من استقراء الرؤى المتباينة حول المسألة اتفاقهم على أنها ليست من أصول العقائد ولا من أصول العبادات بل تدور حول ( الفروعية ) عبادة كانت أو عادة، ويمكن تلمس هذا المعنى في كلام كل من ابن تيمية ( المنكر ) والسيوطي ( المجيز ) وغيرهما، وهو مرتكز على الخلاف في مفهوم ( البدعة )، وتصور هذا الأمر هو بحد ذاته مما يخفف حدة الخلاف، ويرسم حدود النقاش، بغض النظر عن القضايا المصاحبة للذكرى التي وقع الخلاف فيها أيضا.
٣- وبما أن النقاش في تلك القضايا قد أخذ حيزا كبيرا من الطرفين فسآخذ بُعداً آخر في تصوير المسألة من خلال الجواب عن سؤالات ( المقلدين الجدد ) أو مقلدي الغرب كما أطلق عليهم المفكر المغربي طه عبد الرحمن في كتابه ( روح الحداثة ) :
[ لماذا يركز العقل الإسلامي على مناقشات ثانوية مثل المولد، وتقل مناقشاته في قضايا أخرى محورية؟ وخاصة مع اعترافهم بفروعية هذه المسألة ؟
ألا يدل ذلك على سطحية العقل الواقعي للمتدينين ؟
أوليس أمارة واضحة للرجعية التي يعاني منها الإسلاميون بشكل عام ؟ ]
٤- في مثل هذا الموقف يحسُن استصحاب أثر التصورات الأولية عن الغير في السؤالات والمناقشات اللاحقة ، تلك التصورات التي قد يقتضي تسليطها على ما بعدها التجردَ عن الموضوعية.
فمن برمَج في عقله أن فلانا مثلا مخبول أو بخيل أو جبان فإنه يتعامل مع مواقفه غالبا تحت تأثير التصور السابق إلا ما يُدخله في خزانة الاستثناءات الضيقة.
وهكذا العقل المُبرمج برجعية بعض الطوائف أو كونها مدفوعة من الغرب يستسلف هذه التصورات - من اللاواعي - لتفسير مواقفه ورُؤاه.
ولهذا يسهل أن ترى مثل هذه الإرجاعات في الخطابات المختلفة، ليس فقط في الخطاب الديني بل في سائر الخطابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وبحسب صحة تلك التصورات السابقة يكون التفسير اللاحق أقرب إلى الواقع.
٥- إذا استوعبت الفقرة السابقة لم تكن بحاجة إلى فكّ وصف الرجعية عن الخلاف في المولد، لأن إناطة مثل هذه الأوصاف في كل خلاف يخطر في البال عدمُ صلاحيته عملية سهلة وغير علمية أيضا.
إن اشتهار خلاف ما راجعٌ إلى سبب يقتضيه مثل :
أ- ( نوع المسألة ) فقد يشتهر الخلاف فيها لمركزيتها وعمق الخلاف فيها كالخلاف في وجود الله بين المؤلهين والملحدين، والخلاف في نبوة محمد بين المسلمين وأهل الكتاب، والخلاف في صحة الكتب المنزلة بينهم، والخلاف في البعث مع مشركي العرب قديما، والخلاف في العلو بين المثبتة والمعطلة ونحوها.
ب- ( شهرة محل الخلاف ) ككونه فعلا أو سلوكا ظاهرا مشاعا فيكون له من الذيوع والانتشار ما لأصله من الظهور في الخارج، والجزئيات الجارية على هذا السَنن كثيرة.
الموسيقى مثلا يعد الخلاف فيها - وهي فرعية - أشهر من الخلاف في كثير من المسائل المعرفية والوجودية والأصولية مع كونها أهم منها.
والاشتهار أمرٌ نسبي، تختلف حُدوده كما لا يخفى.
ج- ( النوطُ بالأوصاف المُفسّقة ) كالبدعة والشرك، فإذا انضاف إلى شهرة المحل تعليقُه بهذه الأوصاف ازدادت حدة الخلاف فيه.
وكلما كان الفعلُ أقرب إلى النظر والقولُ إلى الذهن والعلمُ إلى الفهم كان الخلاف فيه أشهر غالبا، وكذا العكس، فلا يخضع ذيوع الخلاف للأولوِية دائما، وهذا أمر ملاحَظ في خلافات الجنس البشري عموما.
فمن الغباء المُطالبة بالسحب المطلق لمثل هذا النوع من الخلاف في الجزئيات الذائعة، والاشتغال بقضايا الأمة الجوهرية وذلك لوجهين :
١- أن سحبه يتطلب أحد أمرين : الاتفاق وإزالة الخلاف أو تقليل شهرة المحل، والأول يتطلب إقناع أحد الطرفين بالتنازل وهو صعب المنال، والثاني لا يخضع لهوى المريد بل لفرض الواقع.
٢- أن قضايا الأمة شُغل كثير من أطراف النقاش السابق، ولم تُثنِهم المُشاركة في مثل هذه القضية الجزئية عن الاهتمام بالقضايا الكلية.
والحلّ - في نظري - يكمُن في تنزيل الخلاف منزلتَه، وعدم الانصياع للآثار السلبية المُنعكسة عن ذيوعه وشهرته، هذا إذا كان لجَريانه مسوغ شرعي وعقلي، أما إذا تجرد عن المسوغات فلا محلّ له أبدا.
٦- الخلاف في المولد النبوي وإن كان خلافا فُروعيا لكنّه يكتسب شُهرته من البندين الثاني والثالث ( من أسباب اشتهار الخلاف )، فارتباطُه بفعلِ تقربٍ ظاهر متكرر موصوف بالكراهة والبدعة من الطرف المنكر يؤدي إلى ذيوع الخلاف فيه، وليس لعُمق المسألة أو لخلل عقليّة المُتناقشِين.
كما أن الخلاف فيها ليس فضوليا بل هو خلافٌ علمي في مسألة مهمة ترتبط بتحقيق العبادة والاتباع - وهما من المبادئ الإسلامية العظيمة -، ولا تعارض بين كونها فروعية خلافية وبين وصفها بالبدعة كما قد يتصوره بعض من لم يفهم العلاقة بين هذه الأوصاف.
٧- مَعقِد الكلام التنبيهُ على مثل تلك الأسئلة والأوصاف التي تهدف إلى زعزعة الثقة بالنفس والمنهج، وتحيد بالمرء عن مساره العلمي الصحيح.
وقد رأيت بعض الشباب أودى به الخوف عن إلصاقه بالرجعية والتعصب إلى نوع من التكاسل عن المسائل العلمية، والتنازل عن بعض المفاهيم المنهجية.
وسبق أن أشار إلى مثل هذا الأمر بكلام مقتضب بديع محدّث مِصر أحمد شاكر في جمهرة المقالات حيث قال :
«إِنَّ أُوربةَ لم تتمكن من دول الإسلام فِي فَتَرَةِ ضَعفِهِم إلاَّ حِين أَرهبتهم بـ(غُول التعصب)!
حتى صار كُلُّ مسلم يتخاذل عن دينه وَعن شَريعتهِ خشية أَن يُتهم بـ (التَّعصب)!!».
والحمد لله أولا وآخرا